في إحدى الليالي، وبعد جلسة طويلة مع بعض الزملاء من دول عربية مختلفة، سبقها طعام لذيذ وتخللتها كأس من الشاي الفاخر، تناولنا أطراف الحديث، وكنا نتناقش في عدة مواضيع، إلى أن بدأ أحدهم بطرح موضوع ما يجري بالشرق الأوسط، حتى انقسم الحضور لمن يؤلّه الحكام وعسكرهم، ومن يقدّس داعش وحاشيتها (السحيج والداعشي).
ولأننا في بلد أوروبي، كان الحوار مفتوحاً على مصراعَيه دون خوف أو اعتبارات، هنا أطلت في لعب دور المستمع أكثر من دور المحاور، ربما لأنه لم يكن نقاشاً بل جدالاً، أو ربما لأن الحوار كان من طرفَين مختلفَين، كل منهما يتخذ من فكرته عقيدةً يتبناها كملْك خاص أنا بعيد عنه كل البعد.
على ما أذكر استمر الجدال ساعات طويلة، بعد أن بدأ الحوار كنقاش عادي، وعند احتدام النقاش لجدال عقيم حرّ دون قيود، كان كل طرف يُحكّمني؛ ربما لأنهم لاحظوا تمعّني بكلامهم؛ لا أدري السبب الحقيقي للثقة بي، لكن الذي أعرفه اندهاشي من ثقة كل طرف بنفسه، فقد كنت منبهراً بثقة كل طرف بما يقول أكثر من الكلام نفسه.
كان الطرفان ذكيَّين، وكان استخدامهما للمغالطات المنطقية متقناً لدرجة أن عدم موافقتي للداعشي في بعض مواقفه تخرجني من الدين، وعدم موافقتي للسحيج في بعض مواقفه تجعلني عميلاً، فأنا لم أستطِع أن أجيب على سؤال: (هل أنت ضد الإسلام وحمل رايته وإحياء سُنة رسول الله وتطبيق شريعة الله .. إلخ)؟ إلا بجملة واحدة هي: (بالتأكيد أنا أريد ذلك)، وبنفس اللحظة لم أستطِع أن أجيب على سؤال: (هل تحب وطنك وتصون حدودك وتهتم بقوميتك وتجابه من يزعزع أمنك واستقرارك.. إلخ)؟ إلا بجملة واحدة أيضاً هي: (بالتأكيد أنا أريد ذلك أيضاً).
بعدها تجرأت لدقائق معدودة في نقد الطرفين، فأنا لا أوافق الطرفين في كثير مما يقولان، وخاصة مسألة تكفير من ليس معي ووجوب قتله كما أبدى الداعشي، ومسألة تأليه الحكام وإنكار وجود فساد في الدولة مطلقاً وعدم التلفظ بالنقد لأي أحد بالدولة كما ذكر السحيج.
هنا بدأت المشكلة، حيث إنني ومن دون أن أشعر دخلت في جدال مع الطرفين مرة واحدة؛ كانت حرباً كلامية على جبهتين، وللأسف لم أستطِع أن أقنعهما بمنطق سديد، وأصرّا على رأيهما بتعصب شديد.
للأسف، في آخر الحوار الداعشي يكفرني والسحيج يتهمني بالعمالة، فجأة أصبحت عدو الطرفين، بالتأكيد أمثالي سيكونون عدواً لكلا الطرفين؛ لأن مصلحة كل منهما هي وجود الآخر حقيقة؛ فمن لا يعلم أن من مصلحة أي تنظيمات متطرفة وجود فساد داخلي في البلدان ليثور الناس على الدولة بمن فيها، ولتكون بيئة دون سيادة هشة سهلة الابتلاع، وبنفس اللحظة من مصلحة الدول إيجاد كيان (بُعبع) مثل داعش يخوّفون به الشعوب، فيزيدون من عتاد الجيوش وزيادة نفوذها حتى تخنع الشعوب وتهيبها من وطأة حذاء العسكر؛ فهنا تتكشف قوانين اللعبة.
ملخص الحكاية أن الشعوب ستعاني ما لم تدرك أن الخداع مركون في زوايا كل مكان حولها ومن كل طرف، فلا أصدقاء هنا، والضحية دائماً هي الشعوب التي تتخبط بمعرفة مع من يجب أن تصطف، ولكن الأمر ليس بذلك التعقيد برأيي، فليس على أحدنا أن يدخل بمغالطة أن يكون داعشياً إذا أراد الإخلاص لدينه أو "سحيج" إذا أراد الإخلاص لوطنه، فلا ذلك هو الصف المنشود الاصطفاف به ولا الصف الآخر؛ فالنقاش ليس بالتفضيل بين الأسود والأبيض مع نسيان الرمادي، وليس التفضيل بين الصيف والشتاء على ما فيهما من الحر أو الزمهرير، فأنا سألبس قميصي الرمادي الخفيف صيفاً، ومعطفي الرمادي شتاءً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.