المنطقية والقدرة على تحليل الأمور صفة عادة ما يروج لها الناس على أنها ميزة للجنس البشري وتلقى كل مسؤولية التصرف عادة على العقل كونه المسؤول عن التعامل مع المستجدات والتحديات التي يقف أمامها المر
للإنسان قدرة عجيبة ومتفوقة جدا في إيجاد التبريرات والتحليلات تقريبًا لكل شيء، ومرونة في إعادة تشكيل الرؤية حسب الحاجات والضرورات إلا أن الخطأ الأكبر يكمن في اعتقادنا بأن كل ما ندافع عنه من آراء وقناعات هو نتيجة لتفكيرنا المنطقي ولعلي سأصدمك بحقيقة أن المنطق يرسخ المعتقدات إلا أن المعتقدات لا نصل إليها بالمنطق حتى إن بدا لنا ذلك!
والمعتقدات كثيرة عند الإنسان الواحد، والدين والسلوكيات الموروثة تندرج تحت هذه التسمية. ويمكننا اعتبار كل انطباع أولي معتقد جديد استقر في وعينا دون أن يجد ما يمنعه، إلا أن هناك الكثير من المنطقية المدافعة عنه في حال حاول أحدهم زعزعته. الانطباع الأول برأيي تسمية غير صحيحة تماما.. فالأول تعني بأن هناك ثان والواقع يريك في أغلب الأوقات بأنه لا وجود للانطباع الأول إذ أن الانطباع الأول هو الأخير فعلا!
لا يمكنك إزالة التصورات المبدئية سواء كانت حسنة أم سيئة بمجرد المنطق ويمكنك التأكد من هذا ببساطة عندما تجد المدخن لايزال على ماهو عليه بالرغم من تحذيرات السرطان وأمراض القلب وغيرها. كما ذكرت المنطق عادة يدافع عن ما تؤمن به.. ولا يعمل بنفس الكفاءة عكسيا.. فالعقل بفطرته يدافع عن مايعرف ويألف ويحيطه بسوار من المنطق ويفترض الخطأ ويأخذ الحيطة مع كل ما لا يعرفه!
معظم الناس لا يدركون أهمية هذا التكوين وخطورته وضرورة فهمه، ولو تأملت لوجدت حملات صناعة المعتقد والانطباعات الأولى تحيط بك وتلعب بخفة وأناقة بوعيك ووعي أمم بأكملها.. إن كنت متابعا للأفلام الأمريكية فأول شيء سيخطر في بالك عندما أنطق روسيا هو البرد والبارات وصفقات السلاح وسترى بأن "الأسود" مرتبط دوما بأعمال العنف والمخدرات أضف إلى ذلك أن قوات الشرطة الأمريكية لا تهزم وهكذا. ومثال آخر ظهر في السنوات القليلة الماضية الإرهاب الذي يسوق على أنه صفة من صفات العرب والمسلمين. و سأخبرك بسر صغير: لن تغير قناعات أي شخص يؤمن بما سبق باستخدام المنطق والأدلة!
يحرص العدو أو أي منافس لك بأن يكون له السبق في صنع الصورة الأولى في عقل المتلقي.. فالصورة الأولى لا تخضع للتحليل ولا التقييم ولا تواجه أي دفاعات ضدها خصوصا إن كانت عن موضوع لم يسمع به الشخص مسبقا.. فعندما يسوق اليهود لرؤيتهم ويظهرون بمظهر المتحضر وصاحب الحق أمام شعوب لا تعرف عن فلسطين ولا شعبها ولا عن تاريخ المنطقة شيء تكون بذلك هي صانع الصورة الأولى فتصور الحقائق بطريقة تخدمها وتدعم موقفها.. ويتحول كل هذا من معلومات مرتبة بشكل منمق إلى عقيدة في عقل المتلقي!
إن حاولت يوما تغيير أي صورة مسبقة عن شعب أو دين أو حضارة أو حتى نهج سياسي فستكون في صراع عقائدي! فالمنطق لن يفيدك لأنه سيجد ضده منطق آخر يدافع! وهنا يبدأ الجدل وستدخل في دائرته التي ستراها أنت دائرة تنوير بينما في الحقيقة هي دائرة تثبيت لمعتقد من أمامك. إن كنت تناقش بالمنطق شخص يرى بأن الإسلام دين إرهاب سيدافع لاشعوريا وينتقي ما يوافق معتقده وسيبحث عن أي فعل متطرف قام به مسلم ليمنعك من زعزعة مايعرف! لذلك بدلا من الجري وراء الآخرين لتعديل معتقد قم بصناعة الصورة الأولى بدلا من محاولة تغييرها!
وتذكر أن الانطباع معتقد.. وتصحيحه بالمنطق لايفيد.. بعد إيمانك بمعتقد يضع العقل حواجز لحمايته، وعند احتدام الجدل يحمي الشخص نفسه بالرجوع لمعتقده ومنطقته النفسية المريحة ولعل سؤال المقال القادم سيكون: كيف يصنع المعتقد؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.