فلسفة اللغة العربية

يقول قاسم أمين في "كلمات": "في اللغات الأخرى يقرأ الإنسان ليفهم. أما في اللغة العربية فإنه يفهم ليقرأ: فإذا أراد أن يقرأ الكلمة المركبة من هذه الأحرف الثلاثة (ع ل م) يمكنه أن يقرأها عَلَمْ أو عِلْم أو عُلِم أو عُلِّم أو عَلَّم أو عَلِم. ولا يستطيع أن يختار واحدة من هذه الطرق إلا بعد أن يفهم معنى الجملة، فهي التي تعيِّن النطق الصحيح؛ لذلك كانت القراءة عندنا من أصعب الفنون".

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/09 الساعة 03:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/09 الساعة 03:17 بتوقيت غرينتش

يُعتبر الأستاذ الدكتور عثمان أمين -رحمه الله- من أهم أساتذة الفلسفة بجامعة القاهرة، ولعل العلامة المميزة لعثمان أمين أن محاولاته الفلسفية كانت ابنة مجتمعه وحضارته، ومتأثرة تماماً بالفكر الإسلامي، رغم أنه قد ساهم في ترجمة بعض نفائس الفلسفة الغربية إلى العربية.

ويعد كتابه فلسفة اللغة العربية، الصادر عام 1965، ضمن سلسلة المكتبة الثقافية، التي كانت تصدر عن الدار المصرية للتأليف والترجمة، من أهم كتبه، رغم صغر حجمه.

ولدي نسخة من الكتاب في مكتبة والدي رحمه الله، قمت بتصويرها ورفعها على الجوجل درايف، ثم قررت مشاركتكم بأهم الأفكار التي أوردها المؤلف عن خصائص الفلسفة الكامنة في اللغة العربية.

يرى د/عثمان أمين أن خصائص الفلسفة الكامنة في طبيعة اللغة العربية هي:

المثالية الميتافيزيقية

يرى المؤلف أن من أهم ما يميز العربية أنها تنحو نحواً من المثالية لا نظير له في أي لغة من اللغات الحية المعروفة.

والجمل الخبرية في اللغة العربية لا يُثبت فيها فعل الكينونة؛ فيُقال "فلان شجاع" وليس "فلان هو شجاع" أو "فلان كائن شجاع". فالإسناد في اللغة العربية هو إسناد ذهني يكفي فيه إنشاء علاقة ذهنية بين "موضوع" و"محمول" أو "مُسند إليه" و"مُسند" دون حاجة إلى التصريح بهذه العلاقة نطقاً أو كتابة، أي بلا رابطة حسّية.

يمكن الاستنتاج من ذلك أن اللغة العربية تفترض دائماً أن شهادة الفكر أصدق من شهادة الحس، وأن الماهية متقدمة على الوجود. وهي فلسفة تعكس أن الفكر هو المقياس الذي تُقاس به الأشياء، وإطلاق الألفاظ في العربية يكون باعتبار ما يحصل في الذهن وليس باعتبار حقيقة الموجودات الحسية؛ لأن إدراك الذهن للموجودات الحسية يختلف، كما ينبغي الإشارة إلى أن تقدم الماهية في العربية هو تقدم رتبة.

الحضور الجُواني

(الذات العارفة) أو (الأنا المفكرة) ماثلة في كل قضية صيغت صياغة عربية، وحضورها حضور روحي داخلي، يسري في الضمائر والأفعال الداخلية في بنية الألفاظ، دون حاجة إلى إثباتها بالوسائل الخارجية كالرموز والعلامات الظاهرة.

لا يوجد في العربية فعل مستقل عن ذات. نقول: اكتب، أو يكتب، أو تكتب.. الخ. بينما في اللغات الغربية الحية غالباً ما تثبت الآنية أو الذات عن طريق التصريح بضمير المتكلم أو المخاطب أو الغائب. يقولون: "أنا أفكر" و"أنت تشك" و"هم يجادلون"، بينما يكفينا في العربية أن نقول: "أفكر" و"تشك" و"يجادلون" دون حاجة في كل مرة إلى إثبات الضمير.

ونلحظ في العربية أن حروف المضارعة تتقدم في أول الكلمة، كونها دالة على الفاعلين من هم، وما هم، وكم عِدّتهم.

وتقديم حرف المعنى عند العرب، كما يقول ابن جني، لقوة العناية به، فقدّموا دليله ليكون ذلك أمارة لتمكنه عندهم.

وكذا الإضافة في العربية لا تحتاج إلى لفظ يشير إليها. يكفينا أن نقول "كلية الآداب" دون رابط بين المضاف والمضاف إليه، ولكن في اللغات الغربية لا بد من لفظ صريح يشير إلى الرابطة.
يقولون بالإنكليزية Faculty of Arts.

وهنا أسجل ملاحظتي على تأثر اللهجة الشامية باللغة الفرنسية؛ حيث يُلاحظ في كلامهم إنشاء رابط متكلف لبيان الإضافة، فيقولون: "أبوه لمحمد" و"زوجها لسعاد"، وهو ما لا يُعرف في لسان العرب.

صدارة المعنى

اللغة العربية إذا كانت تُعنى بالألفاظ فذلك من أجل المعاني.
يقول ابن جني: اللغة العربية من أكثر لغات الأرض دلالة معنوية، بل إن الكثير من ألفاظ العربية قد فقد الدلالة الحسية.
من أمثلة ذلك:
– الفعل "قضى" معناه "حكم"، والأصل فيه القطع الحسي.
– والفعل "عقل" معناه "فهم"، وهو مأخوذ من عقل الناقة، أي: ربطها.
– والفعل "أدرك" الأصل فيه البلوغ الحسي، لكن يُقال: فلان أدرك القطار، أي: لحقه.
– والفعل "بلغ" وُضِع أصلاً للدلالة على الوصول الحسي في المكان والزمان.
– الأصل في معنى "الفصاحة" قولهم: فصح اللبن، إذا ذهبت رغوته، ثم قيل فصح، بمعنى وضح.
– و"الرأي" أصله من "رأى" أي: شهد بعينيه.

وصيغ الأفعال وأوزانها في العربية عامل من عوامل ثروة اللغة وقدرتها على الدلالة على فروق وظلال تنضاف إلى المعنى الأصلي، دون زيادة في اللفظ ومع الاحتفاظ بطابع التركيز الذي تميزت به لغة القرآن.

والعربية فوق ذلك أكثر اللغات قبولاً للاشتقاق، تتولد ألفاظها بعضها من بعض وكأنها كائن حي. يُعرِّف السيوطي الاشتقاق بأنه "أخذ صيغة من أخرى، مع اتفاقهما معنى ومادة، وهيئة تركيب؛ ليدل بالثانية على معنى الأصل بزيادة مفيدة لأجلها اختلفا حروفاً أو هيئة".

والاشتقاق في العربية يقوم بدور لا يُستهان به في تنويع المعنى الأصلي وتلوينه، إذ يكسبه خواص مختلفة، مما لا يتيسر التعبير عنه في اللغات الآرية إلا بألفاظ خاصة ذات معانٍ مستقلة. بذا تكون ألفاظ العربية متصلة ببعضها بأواصر قوية وارتباط حيوي، بينما تكون المفردات في غيرها آلية جامدة، منعزلة مفككة، في كثير من الأحيان لو عدم الاشتقاق.

والعربية تدل بالحركات على المعاني المختلفة، من غير أن تكون تلك الحركات أثراً لمقطع أو بقية من أداة. فيكون ذلك في وسط الكلمة وأولها وآخرها: فهم يفّرقون بالحركة:
– بين اسم الفاعل واسم المفعول، في مثل مُكرِم ومُكرَم.
– وبين فعل المعلوم وفعل المجهول، نحو: كَتَب وكُتِب.
– وبين الفعل والمصدر في مثل عَلِم وعِلْم.
– وبين الوصف والمصدر، في مثل فَرِحْ وفَرَح.
– وبين المفرد والجمع، في مثل أَسد وأُسد.
– وبين الفعل والفعل، في مثل قدِم وقدُم.
– وبين الاسم والاسم في مثل سُحور وسَحور.

الإعراب والإبانة

الإعراب هو الإبانة والإفصاح؛ وهو مصدر من "أعرب عن الشيء" إذا أوضحه وأبان عنه. يقول ابن جني: إن أصل هذه الكلمة قولهم: العرب؛ وذلك لما يُعزى إليهم من الإعراب والبيان والفصاحة.

لمّا كانت العربية تتوخى الإيضاح والإبانة كان الإعراب إحدى وسائلها لتحقيق هذه الغاية، فكان إفصاحاً عن صلات الكلمات العربية بعضها ببعض، وعن نظم تكوين الجمل بالحالات المختلفة لها. بينما في اللغات الخالية من الإعراب يعتمد أهلها على القرائن اللفظية لفهم المقصود من المعاني، ولا مميز فيها بين الرفع والنصب والجر، وإنما يقوم مقامها إلحاق أدوات خاصة بذلك.

وحين قال رجل لأمير المؤمنين علي، كرم الله وجهه، من غير إعراب: "قتل الناس عثمان"، وكان العرب قد فسدت ألسنتهم بمخالطة العجم بعد الفتوحات، قال له أمير المؤمنين: "بيِّن الفاعل من المفعول، رضّ الله فاك".

رسم الظلال والألوان

العربية وافرة الألفاظ الدالة على الشيء منظوراً إليه في مختلف درجاته وأحواله ومتفاوت صوره وألوانه، من أمثلة ذلك:
– الظمأ والصدى والأوام والهيام، كلمات تدل على درجات من العطش.
– العشق والغرام والولع والوله والتيم، درجات متفاوتة من الحب تبين حالاته في نفوس المحبين.

ووفرة الألفاظ التي يعبر كل منها على درجة الشيء تضيف للعربية سمة أخرى وهي الإيجاز في اللفظ والتركيز في المعنى، دون الإخلال بما درجت عليه من الوضوح والتميز. فمما يميز العربية أن الحرص على الإيجاز والتركيز يكون مع دقة التعبير.

والكناية من أخص خصائص العربية التي يُقدم عليها المتكلم بها مع ثقته بفهم المخاطب، وتعطي ظلالاً للكلام.

وكما ذكر الثعالبي في "فقه اللغة"، قد تستعمل العربية حرفاً واحداً يدل على معانٍ كثيرة، ويعبر عن أغراض متنوعة، مثال ذلك حرف اللام: منه لام التوكيد، ولام الاستغاثة، ولام التعجب، ولام المِلك، ولام السبب، ولام الوقت، ولام التخصيص، ولام الأمر، ولام الجزاء، ولام العاقبة.

الدعوة إلى الحركة والاتجاه إلى القوة

للكلام عند العرب سلطان وأي سلطان. والكلمة عندهم يُحسب لها دائماً ألف حساب. كما أن العرب يؤثرون القوة والشدة على الضعف والرخاوة، ولغتهم جاءت لذلك معبرة عنهم.

يقول ابن جني في "الخصائص": "ألا ترى أن الابتداء لمّا كان آخذاً في القول، لم يكن الحرف المبدوء به إلا متحركاً؟ ولمّا كان الانتهاء آخذاً في السكوت لم يكن الحرف الموقوف عليه إلا ساكناً؟".

فالعربية تمنع الناطق بها من النطق بالحروف الساكنة في أول الكلام؛ لأن تلك الفلسفة تفترض أن كل قول جاد ينبغي أن يكون بمنزلة الفعل، أو أن يُهييئ قائله أو سامعه للفعل المرتقب. والفعل يقتضي الحركة.

توخي الوعي والفهم قبل النطق والسمع والكتابة

يقول قاسم أمين في "كلمات": "في اللغات الأخرى يقرأ الإنسان ليفهم. أما في اللغة العربية فإنه يفهم ليقرأ: فإذا أراد أن يقرأ الكلمة المركبة من هذه الأحرف الثلاثة (ع ل م) يمكنه أن يقرأها عَلَمْ أو عِلْم أو عُلِم أو عُلِّم أو عَلَّم أو عَلِم. ولا يستطيع أن يختار واحدة من هذه الطرق إلا بعد أن يفهم معنى الجملة، فهي التي تعيِّن النطق الصحيح؛ لذلك كانت القراءة عندنا من أصعب الفنون".

ويرى د/عثمان أمين أن هذه ميزة تفرّدت بها لغتنا عن سائر اللغات، وأن العربية في ماهيتها وصميمها، لغة تتطلب من كل قارئ أو مستمع لها أن يكون واعياً فاهماً، قبل أن ينطق وقبل أن يسمع.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد