في فترة المراهقة كنت حبيسة البيت، ليس لأن أهلي فرضوا ذلك عليَّ، لكن كان اختياراً منّي.
لم أكن أجد راحتي خارجه رغم أنني أنسجم بسرعة إذا ما وجدت حديثاً، وأجد نفسي قد ضمنت لكلامي جمهوراً ومستمعين، لكن كنت أحب البقاء وحيدة ومشاهدة التلفاز أو تصفح الإنترنت، كنت أفوت حصص الدراسة لهذا الغرض، لكني لم ألاحظ ساعتها أنني أُستعبَد.
أول ما لفت انتباهي حينها قناة تلفاز أميركية تصور حياة الأشخاص الواقعية، فكنت أجد أن واقعهم ذاك لم يخطر ببالي حتى في الحلم، لم أحلم إلى ذاك الحين بمنزل بعشر غرف نوم وأربعة حمامات، ولم أحلم بخزانة ملابس بحجم غرفتين من بيتنا، كما أنني لم أحلم بمكتبة بحجم عمارة.
فبدأوا يصنعون أحلامي، بدأت أدمن صوراً وأتخيل نفسي في نمط عيش مثالي لا بكاء فيه، كأنه الجنة أو أكثر، وكل المشاكل تتلخص فيما سأرتديه للخروج وكيف سألفت انتباه أوسمهم بمجرد دخولي من باب ما.
لكن بمجرد أن أطفئ الجهاز أشعر بالضيق والكآبة كأنني اختطفت من منزلي وأتوا بي لهذا المنزل الكئيب والمليء بالصغار وأشخاص في الخارج يتحدثون، وبانتظاري غسيل المواعين وطي الملابس ومسح الغبار، ومراجعة دروسي من أجل الامتحان، في حين أن هذه الكلمة الأخيرة لم يكن لها وجود في عالمي الآخر، وأيضاً لا توجد إحدى المشاكل الأخرى فأُنهي كل شيء لا أدري كيف؛ لأعود لعالمي المريح الهادئ ذاك الذي ليس فيه امتحانات؛ لأجد نفسي بعد مرور سنتين أنه قد تم استغلالي من طرف موقع إلكتروني وقناة تلفزيونية.
لم أستطِع الاعتراف لمدة طويلة بأنني مدمنة ومهووسة بالخيال، و الخيال إما أن يكون مفيداً يجعلنا نتخيل حياة خاصة بنا، عالم ليس له مثيل كله عجائب وكائنات غريبة، وإما أن يكون خيالاً مدمراً يجعلنا نكره ما نحن عليه وواقعنا الذي يجب أن نتعايش معه ونطوره.
فبدأت رحلة العودة للحياة ويا لَها من رحلة، وجدت نفسي أصارع شيئاً لا أحد يعلمه غيري ربما له دواء، لكنَّ والدي التقليديين لا يعترفان إلا بالمرض المحسوس ذاك الذي يترك علامات واضحة على الجسد.
مررت بأشياء متنوعة، أولها بدأت التشكيك في كل شيء وأصل الأشياء، وتوزيع البشر على الجغرافيا، وعلى أي معيار اعتمد الخالق؛ كي أخلق أنا هنا وجسيكا هناك.
وبعدها التقيت بكتاب عذاب القبر، فاعتكفت وحرمت كل شيء وأصبحت الحقيقة الوحيدة هي العمل للآخرة، وبعدها بدأت أحلل بعض الأشياء لنفسي وأحرم أخرى لنفسي حتى هدأت واستكنت، وعلمت أن الله الحق وبيده كل شيء، عندها ولأول مرة فهمت ما معنى أن الإيمان أن تؤمن بالقدر خيره وشره.
بعد رحلة العودة الطويلة اكتشفت مَن هم مثلي وهم الأغلب، والمريع أن نجدهم صدقوا حياة الخيال المدمر ويتعاملون باعتبار ما سيكون وكلهم يطورون صناعة الهوس ويضخمونها، أشخاص مهووسون بثقافة الغرب، وأخريات مهووسات بالشكل وآخرون مهووسون بالدفاع عن قضايا لا علاقة لها بواقع العرب، أشخاص تفرغوا للحلم بالهجرة وعيش الحلم الأميركي، ونسي الجميع أن يعيش لنفسه، وأن يفك قيوداً وقع فيها إما صدفةً أو عن بيّنة واختيار.
نحن كلنا وبدون استثناء نعيش نوعاً من أنواع الهوس، والفتّاك في الأمر أننا لا نكتفي به لأنفسنا بل ندافع عنه أمام الشعوب والقبائل، نروج له ونظهر للجميع أننا الصواب.
فالشيعي لم يكن مهووساً من قبل وأصبح كذلك والسني أيضاً على غراره، وكذلك المثقف والمسلم والكل.
أصبح الهوس طعاماً لذيذاً يغذي صناع الإعلام والمواقع والقنوات.. لو أننا فقط نستيقظ لنصف ساعة، لنستفيق ونهرب من تأثير المخدر.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.