يطمح ولي العهد السعودي إلى القفز بالمملكة وتخطى حاجز الزمن لتحقيق طموحه في بناء مشاريع كبرى تضاهي مثيلاتها في دول الخليج المجاورة، فمنذ أسابيع خرج محمد بن سلمان في مؤتمر عالمي دعا إليه الكثير من الشخصيات العالمية في مجال الاقتصاد ليعلن عن خطة الجديدة وهي مشروع نيوم.
"مرحباً بكم في مستقبل المملكة العربية السعودية"، هكذا أشارت المرشدة السياحية، الأسبوع الماضي، حين قادت الضيوف إلى صالة عرض تعرض قيماً لا ترتبط تقليدياً بالمملكة العربية السعودية، مثل المساواة بين الجنسين، والاستدامة البيئية والابتكار التكنولوجي.
بعد عرض فيديو تمهيدي باستخدام تقنية آيماكس، كانت المحطّة الأولى "جولة المشاريع الضخمة"، نموذجاً لإحدى 3 مدن مستقبلية جديدة، من المقرّر أن تصبح واقعاً على الأرض العام المقبل، ويطلق عليها اسم "القدية".
تقع تلك المدينة على بعد 25 ميلاً من العاصمة الرياض، ومن المتوقع أن تكون مدينة ترفيهية بامتياز، بدءاً من منحدرات التزلّج في الأماكن المغلقة، وحتى الأفعوانات الدوّارة وحديقة الحيوان. سيتمكن الضيوف من التفاعل مع الأسد ثلاثي الأبعاد، أو تجربة الدراجة الجبلية ومحاكاة سباق السيارات.
في نهاية القاعة هناك معاينة للمدينتين الأخريين، المنتجع السياحي الذي يطلّ على البحر الأحمر، ومدينة نيوم، والمركز التكنولوجي الذي يهدف إلى أن يكون عدد الروبوتات فيه أكبر من عدد السكّان.
تشكّل تلك المدن -بحسب تقرير لمجلة فورين بوليسي الأميركية- جزءاً من رؤية 2030، وهي خطّة المملكة الطموحة إلى تحريك الاقتصاد بعيداً عن النفط.
تمّ الإعلان عن البرنامج قبل أكثر من عام، ولكن الحدث الذي استمرّ بين 24 و26 أكتوبر/تشرين الأول، كان فرصةً للنخبة المالية العالمية أن تقرّر ما إذا كان ولي العهد محمد بن سلمان "جاداً، كما عبّر أحد المستثمرين. ما تسمى بمبادرة الاستثمار المستقبلية استقطبت 3500 مشارك، من بينهم عشرات المديرين التنفيذيين. وساعد أعضاء الطاقم من شركة الطيران الوطنية السعودية، في توجيه المستثمرين المحتملين عبر ممرّات ريتز كارلتون. بينما وقف حرّاس المبنى الآليّون، خارج غرف الاجتماع لإجراء تفاعلات مرحة، والتقاط السيلفي.
زوار دوليون وخطاب محلي
كان من المؤكد أنّ العرض موجّه إلى الزوّار الدوليّين. لكنّهم خاطبوا الجمهور المحلّي أيضاً، وقدّموا أدلّة حول الاتّجاه الذي تسير فيه المملكة تحت حكم ولي العهد محمد بن سلمان.
كانت قائمة الحاضرين المحليين هي من رجال الأعمال السعوديين، بينما خرج كلّ مذيع تلفزيوني كبير، وكاتب عمود صحفي، لتغطية الحدث. كانت الرسالة واضحة للجميع: على مدى 3 عقود، عملت الدولة بجهد لتجنّب الإساءة إلى النخبة الدينية المحافظة، ما عرقل بروز مظاهر الحداثة التي برزت بوضوح في دول مجاورة مثل دبي. وكان الهدف من هذا المؤتمر، هو وضع نهاية لتلك المرحلة، وبدء مرحلة طموحة جديدة.
قالت أمل الحزاني، وهي كاتبة عمود في صحيفة الشرق الأوسط السعودية، وأستاذة بجامعة الملك سعود: "قبل الآن، كانت الحكومة دائماً تحقّق التوازن بين الشعب الليبرالي والمحافظين، بأن تمنح أحد الفريقين شيئاً ثم تمنح الفريق الآخر شيئاً آخر. كانوا يحاولون الحفاظ على ذاك التوازن، حتّى جاء ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لينهي تلك الحقبة".
إنّ تعليق الآمال كثيراً على الوزن الرمزي والمادي للمشاريع الضخمة أمرٌ محفوفٌ بالمخاطر في السعودية، حيث المشاريع الضخمة لها تاريخ من الإخفاقات. لم تصدر المملكة بعد تقديراتٍ مفصّلة عن تكاليف هذه المدن، بما في ذلك كيف ستأتي الاستثمارات، عدا القول إنّ نيوم ستحصل على 500 مليار دولار على مدى السنوات المقبلة من المستثمرين من القطاعين العامّ والخاصّ.
في الوقت ذاته فإنّ معظم المدن الاقتصاديّة، التي أطلقتها الهيئة العامة للاستثمار في عام 2005 لحشد الاستثمارات الخاصة، قد تعثّرت في النهاية. يمكن للمرء بسهولة أن يعثر على قائمة من القطاعات، بما في ذلك الرعاية الصحية والتعليم والنقل العام، التي يمكن أن تكون أحوج لبعض المليارات التي ستُنفق على هذه المشاريع الضخمة.
لكن الطموحات الكبرى للمؤتمر قد تكون هي المغزى: أشار محمد بن سلمان إلى السعوديين بأنهم يشرعون في مشروع إصلاح ضخم لا يمكن معه العودة إلى الوراء. وستحتاج المملكة إلى تغيير جذري لإيصال هيكلها الاقتصادي والاجتماعي إلى القرن الحادي والعشرين.
قال محمد بن سلمان للجمع "إن 70% من السعوديين تقل أعمارهم عن 30 سنة، ولن نضيع 30 سنة من حياتنا في التعامل مع الأفكار المتطرفة، سندمِّرها اليوم"، وأضاف: "نريد أن نعيش حياة طبيعية".
لم يدرك العديد من المشاركين في المؤتمر مدى ثورية بعض جوانب حدث الأسبوع الماضي. تمتع المصرفيون من لندن إلى لاغوس باستراحات قهوة مختلطة بين الجنسين، حيث لم يكن مطلوباً من النساء ارتداء العباءة التقليدية، ولم يكن هناك وقت مستقطع للصلاة، الشيء الذي كان يتسبب في إغلاق الشركات السعودية لمدة 30 دقيقة عدة مرات في اليوم.
الفخامة والظروف المحيطة
أحلام المملكة كبيرة إلى حد مبالغ فيه تقريباً، ومحمد بن سلمان مشاركٌ بشكل وثيق في صياغتها. وطرح في بادئ الأمر فكرة بناء مدن جديدة بالكامل عام 2015، بعد تنصيب والده ملكاً، ومنذ ذلك الحين أشرف على كل التفاصيل، حتى تصاميم شعار المشروع.
وستغطي مدينة نيوم، التي تمثل محور المشاريع العملاقة، ما يزيد على 10 آلاف ميل مربع، أي تزيد مساحتها على مساحة لوكسمبورغ بمقدار 10 أضعاف. ووصف بيان صحفي مبدئي المدينة بأنها "الأكثر أماناً، والأكثر فاعلية، والأكثر تطلعاً نحو المستقبل، وأفضل أماكن العيش والعمل" في العالم.
وخلال الأسبوع الماضي، منح الاطلاع على مدينة نيوم انطباعاً سريالياً عن عملية التخطيط. فكل تفاصيل الحياة في نيوم ستكون مرتبطة بالذكاء الاصطناعي: حيث سيجري تصميم الطرق والسيارات لتفادي الزحام المروري، بالإضافة إلى توجيه طلبات البقالة مباشرة إلى وحدات التوصيل عن طريق طائرات بدون طيار. وسوف يقوم المزارعون الذين يعتمدون على الزراعة المائية، بالزراعة بدون تربة، مستخدمين الكهرباء التي تنتجها الألواح الشمسية.
وتهدف المدينة إلى جذب أفضل المواهب التقنية في العالم، بالإضافة إلى تحفيز المشاريع للتوافد على نيوم عبر أنظمتها التفضيلية. وسوف تُستمد الحياة الاجتماعية والأعراف الجنسانية من "أفضل الممارسات العالمية" وهو المصطلح الذي يمثل إجابة افتراضية على أي سؤال يدور حول كيفية عمل شيء ما في المدينة، سواء كان السؤال يتعلق بالنقل أو باللغة الرسمية.
وقالت سمر جمجوم، مديرة الخدمات المصرفية الاستثمارية في ميريل لينش بالمملكة: "الأمر متعلق بالتنفيذ. وأضافت أن دعم محمد بن سلمان الشخصي وتركيزه على ترسيخ اللوائح الجيدة مطمئن جداً. وهو أمرٌ لم نسمع به في العقود الثلاثة الماضية".
شبيهة بالخيال العلمي
ولكن معظم المحللين يقولون إن خطة نيوم الشبيهة بالخيال العلمي قد تستغرق عقوداً من الزمن، إذا حدث ونُفذت على الإطلاق. ثمة بلدان كثيرة حاولت بناء وديان السيليكون الخاصة بها وفشلت. لكن الخطط التي تقودها الدولة مثل نيوم تفتقد إلى النظام التكنولوجي الطبيعي الذي يمتد من الأسفل إلى الأعلى، والذي يولد الابتكارات. وفي الوقت نفسه، فإن مدن الخليج التي يأمل مشروع نيوم منافستها -مثل دبي وأبوظبي والدوحة- قد سبقت المملكة بأكثر من 10 سنين.
ويحذّر النقاد أيضاً من أن تلك المشاريع لن تقدم الكثير في البداية لمعالجة التحديات الجوهرية التي ألهمت رؤية 2030، مثل بطالة الشباب، والبيروقراطية المتضخمة، وتخلف نظم التعليم والصحة.
يقول جيورجيو كافيرو وثيودور كاراسيك، المحللان في مركز استشارات المخاطر لدول الخليج "إن مشروع نيوم يثير تساؤلات جدية حول مدى واقعية هذا التغيير الكبير في المملكة، كما أنها تجذب الانتباه إلى عدد كبير من المشكلات التي لا تزال المملكة تعاني منها".
وقال مسؤولون في المشروع، إن ما يمكن للمدن أن تنجزه على المدى المتوسط هو إبقاء المال السعودي داخل المملكة. إذ ينفق السعوديون اليوم 15 مليار دولار على السياحة الخارجية كل عام، و12.5 مليار دولار على الرعاية الصحية في الخارج.
ويأمل أنصار هذه الخطة أن يتم توجيه بعضٍ من هذه الدولارات إلى السياحة في البحر الأحمر ومركز التكنولوجيا الحيوية الجديد في نيوم، كما يمكن إقناع السعوديين بقضاء عطلاتهم في مدينة القدية الجديدة، بدلاً من دبي أو البحرين.
هذا، ومن المقرر أن تكون البداية الميدانية الفعلية لإنشاء المدن الكبرى الثلاث في عام 2018 أو 2019 على الأرجح، وفقاً لما ذكره مستشارو المشروع لـ"فورين بوليسي"، الذين اشترطوا عدم الكشف عن هويتهم، إذ إنهم غير مخولين بالتحدث إلى الصحافة. ومن المقرر الانتهاء من المراحل الأولى من البناء في عام 2022 تقريباً، على الرغم من أن الخبراء الاستشاريين قالوا إنه لا يوجد قرار نهائي لما ستشتمل عليه تلك المراحل.
السيطرة على البيروقراطية السعودية
بناء مدن جديدة يعطي محمد بن سلمان ميزة فريدة للعمل من الصفر، لكن في ظل البيروقراطية القائمة سيكون التغيير الذي يأمل في خلقه داخل المملكة مختلفاً للغاية. وسيضطر إلى إقناع نحو 30 مليون سعودي، بما في ذلك نحو 1.2 مليون مقيم أجنبي في تلك الدولة البيروقراطية، بأن التغيير أمرٌ ضروري ولا مفر منه.
إن عجلة الإصلاح الجارية الآن في المدن والبلدات داخل السعودية هي إعادة صياغة لبرنامج التحول الوطني. وقد أُعطيت كل الوزارات مؤشرات رئيسية للأداء، على غرار نظام العمل داخل الشركات تهدف لإعادة تقييم عمل الوزارات. وقد تم زرع فرق من نخبة الاستشاريين والمسؤولين الحكوميين، بعضهم من الخارج والبعض الآخر من الدائرة المحيطة بمحمد بن سلمان شخصياً، في المكاتب الحكومية للتأكد من العمل على تحقيق تلك الأهداف.
أما بالنسبة للمشاريع الكبرى، فإن الكثير من تفاصيل عملية الإصلاح التي تشمل البيروقراطية السعودية واقتصادها لا تزال غير مستقرة. ولم تنفذ الوزارات بعدُ أياً من الإصلاحات التنظيمية، في حين أن عملية تخفيض الرواتب والمكافآت التي طُبقت خلال الخريف الماضي سرعان ما أُلغيت.
ما سرعة التغيير الممكنة؟
ساعدت خطط محمد بن سلمان الكبرى لمستقبل المملكة حتى الآن في رفع سقف التوقعات. ومن بين أولئك الذين تواجدوا داخل قاعات، حدث أكتوبر/تشرين الأول، كانت المهندسة المعمارية السعودية الشابة رنا القاضي، التي عادت للتوّ بعد 7 سنوات من العمل في إسبانيا. وقالت: "كي أكون صريحة، كنت أهرب من المملكة"، وأضافت: "لكن ما يحدث الآن يستحوذ على اهتمامنا جميعاً ويدفَعُنا للتفكير في العودة".
تدرك رنا القاضي والآخرون معها أن سرعة التغيير هنا داخل المملكة لها حدود. ووصف ستيفن شفارزمان رئيس مجموعة شركات بلاك ستون جروب، وهي مجموعة شركات مساهمة خاصة، الأجواء التي سيطرت على المؤتمر بأنها كانت "أجواء حاشدة" مع تحذيره من السعي لتحقيق الأهداف الكبيرة جداً بسرعة كبيرة، وقال متسائلاً أثناء جلوسه على منصة المؤتمر بجانب محمد بن سلمان: "ما السرعة التي يمكنك من خلالها تحقيق حلمك؟"، وعقَّب قائلاً: "هذا شيء يحتاج إلى تحديد وتخطيط، والتأكد من أن التوقعات التي تبنيها في عقلك تتماشى مع ما يمكن تحقيقه على أرض الواقع".
التحدي الكبير أمام ولي العهد الآن هو أن يحلُم أحلاماً كبيرة، ولكن يجب ألا تكون أكبر مما يمكن تحقيقه. في الوقت الحاضر، لا يشكو سوى عددٍ قليل من الناس علناً، جرّاء التغييرات الجارية، ولكن محمد بن سلمان يحتاج بالتأكيد أن يظل مدركاً ومستيقظاً لما قد ينتج عن استمرار إحباطات التيار المحافظ. فالبيروقراطيون الذين يهدف إلى إصلاحهم قد يتراجعون ويدفعون بطريق عكسية، من خلال تأخير بعض المشاريع، أو تعطيل الموافقات، أو العودة إلى العمل غير الجاد مرة أخرى. كما أن الركود في أسعار النفط، وشكوك المستثمرين، وعدم الاستقرار الإقليمي يمكن أيضاً أن تحد من التقدم. بالإضافة إلى الانتقادات التي يتعرض لها جرّاء سياساته الجديدة.