اكتئاب لا يُعجز الإله ورحمة لا تُعجز الطب

في رحلة شاقة يخوضها المكتئب، أكثر معاناته هي نفس تسلط ثم مجتمع قاسٍ لا يرحم.. يحاول في بداية الأمر أن يشرح.. أو يبوح.. فلا يُفهم.

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/29 الساعة 03:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/29 الساعة 03:36 بتوقيت غرينتش

يحكون كثيراً عن الاكتئاب في جيل مبتلى به، وهؤلاء الذين لم يحكوه جدير بهم أن يصمتوا.

في رحلة شاقة يخوضها المكتئب، أكثر معاناته هي نفس تسلط ثم مجتمع قاسٍ لا يرحم.. يحاول في بداية الأمر أن يشرح.. أو يبوح.. فلا يُفهم.

لا يستطيع أحد فهم تجربة الألم إلا أن يخوضها، وإن خاضها فلا يستطيع قط أن يفهم كيف وقْعها على هذا الذي يبوح.. لكن يبقى في قلبه رأفة ورحمة تجاهه تجعله يبقى إلى جواره ولو صامتاً.

يختبر المرء في كآبته أنه وحيد.. يختبر حقيقة الزمن ومعاني الأشياء الزائفة.. يختبر زيف العلاقات وصدقها.. يختبر علمه وإيمانه وحبه.. يختبر كل شيء في آن معاً.

يخوض تجربة وعي مؤلمة جداً، يتجرع معها الخذلان والفقد والتيه والعدم، يبدو له الموت بوابة خلاص وحيدة في ليالٍ كثيرة.

يوشك أن يهلك نفسه لولا صوت وعي طفيف ينتشله ويسلمه لنوم ما.. نوم ما، لا ينام فيه عقله بالأصل، ليصحو على صبح لا يبتهج بطلعته، يوم آخر مكرر.. علاقات هشة.. زيف ابتسامات.. عمل ممل.. كلمات عابرة.. ألم متوارٍ.. خيبات متتالية.. ألم بلا صدى.. حركة بلا هدف.. وسعي بلا معنى.

لينتهي إلى ليل ينتظره فيه الشبح فيذكره بأن نهاره كله كان زيفاً وأن عليه أن يرحل فيرجوه أن يسلمه لنوم آخر، فيفعل في آخر خيوط الفجر..

يصحو بخوف ينهش قلبه كثقب أسود في محيط الفضاء، لا يعرف كنهه، ولكنه يبتلع كل شعوره وسعادته وكل المعاني التي يحملها.

يدعو الله بقلب متوارٍ فيه الشك على استحياء منه.. يرجو أن يمد له الله مداً ليحيا أو أن يهديه حتفاً ليرحل بسلام وحسب، وألا يتركه معلَّقاً بين تيه وموت.

يتراءى له أسماء أطباء براقة على الشاشة الزرقاء، يتشبث بأمل ما كغريق لا يستطيع أن يأمل أصلاً بألم حجمه كعاصفة في بحر غرقه، ولكنه يحاول عبثاً أن يصل.

يبوح بوجعه ويسكن وحدته بجوارهم، يخاف منهم أن يذوب فيهم كشيء ليس له وجود فيبتعد ويقترب ثانية حين يضيع، يأنس بهم ويخلق لحياته معنى في مراقبتهم لخطوته المتعثرة التي لا يريدها بالأصل.

يخاف من كل تلك الفلسفة التي يحملونها باسم الطب في كتب لم يكتبها أحد ما يشبهنا، تحكي أنه مركز الأشياء، والرب مركزها كما يؤمن.

يخاف أن يصدق، ويحتاج أن يفعل، يخاف أن يُختزل في كيمياء وبعض حبوب سخيفة، يخاف أن يقترب فيؤذى، ويحتاج أن يفعل، يبقى في صراع طويل مع كل هذا؛ ليقرر أن يُرخي شراع سفينته العَطِبة على مرسى ما، يبقون كمرساة لسفينة خُلقت لبحر هائج.

ينادي عليه البحر أن يرحل ويكمل رحلة أو يبدأ أخرى من جديد، ولكن سفينته ما زالت عطبة ورحلته محفوفة بالمخاطر، يضيع الزمن على هذا المرسى.

يبقون حوله كحياة ويبقى لهم محض رقم، حين يشاءون تكذيب ألمه يفعلون، وحين يشاءون تصديقه وتضخيمه يفعلون.

يعلم أنه لا يطرق بابهم ولا يطأ غرفهم الضيقة جداً في رحب حياة واسعة صاخبة إلا ليصدق..
ولا يتلمس فيهم غير أنس تهدأ فيه غربته..

يبحث عن أحد يعرفه.. يقبله.. يبقى معه.. بلا قيد أو شرط.. موجود دوماً بلا منّ ولا أذى ولا ثقل.. يبحث فيهم عن صديق مشغول عنه، وعن أب أو أم غادرا حياته، وعن أهل نسوه وكفوا عن ملاحظته.. يبحث فيهم عن الإنسان قبل كل شيء.. يبحث فيهم عن الرحمة والأمان.

يسأل شيخه عن همه فيقول إن الإله يعاقب نسيانه له، ولكنه كان ذاكراً لما خيّم هذا الشبح عليه.. يضيق ذرعاً من شيخه ويحاول أن يمد حبال الوصل مع ربه كل يوم، ويسأله عن سبب عقابه هذا فلا يجد جواباً.

يخبره المعلم بأن عليه أن يعرف الله كربٍّ وحسب والربُّ يرعى، لم يخلقه ليشقى.. يسأله عن إيمانه وعن صدقه وتصديقه.

ينير الإيمان قلبه مرة فيخبره الطبيب بأن تلك كيمياء عقله السخيف تروح وتجيء فيطفئها عمداً ولا يعود يطلبها.. لا يريد الزيف.

يقرأ كثيراً في قرآنه عن النفس والروح، ويشعر بأن هناك دواء هناك لها لا يعرف كيف يستبقيه، ولكنه ما زال يؤمن.. يؤمن برب بارئ نفْس يعلم سرها.. لا تعجزه كآبة ألمّت بها مهما ظن الأطباء أن الكآبة محض كيمياء.

فتلك روح بها نفحة ما، لا يعرف عنها شيئاً حتى الطبيب، ولا يعرف شيخه شيئاً عن فزعه وألمه وفراغ وحدته، ولا عن كل ما يحدث له، لا يعرف الشيخ إلا الحزن العابر.

ربما ما زال يؤمن بالله كربٍّ راعٍ، ويؤمن بمُعلم يرشده إلى الله من طرق لم يخبره عنها الشيخ، ويؤمن بطبيب لو وهب رحمة بقدر علمه ولم يجرّد صفته من صفة إنسان وأحب أن يساعد غيره فقط؛ لأنه إنسان مثله يفيض رحمة يزين بها علمه لا لأنه يتقاضى أجراً لوقت محدد.

ولو هُدي إلى نفْس تعرف الشكر، وترضى بماضٍ قدَّره عليها، ولا تسأل الرب العلم قبل أن يتزين بالرحمة، وألا تسأله مُعلماً أو طبيباً أو شيخاً ليرافقه في رحلته قبل أن تسأله أن يهب له في قلوبهم رحمة، ونفوساً زاكية تقبله وتحبه وترعاه، فيعرف رعايته ولطفه وحبه في وجوههم
ويستدل على لطفه منهم.

لو هُدي إلى نفْس ترضى بالمتاح وتقبل ما يقبلها ولا تتعالى عليه، لو هُدي لنفْس لا تصدق البريق، ولو كان بريق الذات أو بريق الأحرف، لو هُدي لنفس تصدق الإيمان وتحتمل مشقة التصديق وتؤمن بأن بابه أوسع دوماً وإيمانه يشفيه حتماً- لكفاه ذلك في رحلة كآبته، ولتحررت سفينته في بحر الحياة وانطلقت.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد