ما بين ماضٍ أنظر فيه لأبحث هناك عن شيء يثير في نفسي شعوراً بالسعادة الماضية، ولا أدري ما هو ذلك الشيء، ولكنه موجود، وما بين نظر إلى المستقبل أتطلع فيه إلى شيء يبعث في نفسي الأمل، ويمنحني بعض القدرة على الصبر، ولا أدري أيضاً ما هو، ولكنه هناك، موجود.
وما بين حاضر ينقصه شيء ما، يجعل منه كما لو كان يوماً صائفاً قررت أن أصومه، حتى بلغ منّي الجهد، ولكن كأنه كان هناك فجر، قبل ذلك كنت أرتوي من الماء قبل بزوغه وأستمتع بنسيمه الصافي حين طلوعه، وكأنه هناك غروب آتٍ سوف أشرب فيه ماءً بارداً أستمتع بمروره في عروقي، فيبعث في نفسي الأمل والحياة، شيء ما مفقود مثل ذلك الماء، معرفتي بحقيقته لا تتعدى حقيقة السراب لذلك الظمآن التائه في الصحراء، وقد علم أن ما يظنه ماءً من انعكاس الشمس كان سراباً.
"ممتاز، عرفت كيف أستخدم الموقع، وأشعر أن جودة حزين"، تلك الجملة التي كتبتها فتاة صغيرة بالمرحلة الثانوية كانت تحضر ورشة عمل بالشركة للتدريب معنا ضمن البرنامج الذي نعده للطلاب في الإجازة الصيفية، ووجدت تلك الجملة مكتوبة كإجابة للسؤال عن تقييم المتدربين لي في الاستبيان الذي أكملوه في نهاية اليوم.
بالرغم من أنني كنت حينها في حالة مزاجية طبيعية، ويبدو أن شعورها ذلك نتيجة الإجهاد الذي حلّ بي من طول اليوم، أو من السهر في الليلة السابقة له، لا أدري، ربما أنا بالفعل حزين.
"ما لي أحنّ لمن لم ألقَهم أبداً ** ويملكون عليَّ الروح والجسدا"
ذلك المطلع في قصيدة تميم الذي يمثل لي ذلك الأمل المفقود فيما أتطلع إليه، هم أولئك الأشخاص وتلك الحياة الصافية معهم أو بينهم، أو هو شيء يشبه تلك الحياة التي حلم بها أدهم في رواية "أولاد حارتنا" وظل كل من يأتي بعده من المُخلَصين يفنون أعمارهم في سبيل تحقيق ذلك الحلم، أو لعل الأمر لا يتعلّق بالأشخاص، ولكن ربما بالأشياء، والتي إن امتلكها المرء تسببت في سعادته، أو ربما يكون العكس وتكون الأشياء التي إن لم يمتلكها تركت له مساحة رحبة ليتنفس بعض السعادة ويشعر بالبراح في روحه، وسوف أوافقك إن اعترضت على جملتي السابقة في أننا نملك أشياء، وأن الأشياء هي التي تملكنا.
ربما تلك الحالة لم تمثل حالتي الشخصية، ربما هي حالة أصابت جيلي في شبابه، وعلى ذكر شبابه، فقد فوجئت بأن هناك جيلاً من الشباب أتى بعد جيلي، وبأنني بالنسبة لهم جيل أقدم من جيل الشباب الحالي، وأن هناك مصطلحات ومطربين وأغاني ولغة وطريقة تفكير لم أجد للحاق بها أو إدراكها سبيلاً؛ لأن هناك جيلاً من الشباب الصغار قد زحف خفية تحت الأرض وفجأة كبر وزاحمنا في مساحة الشباب التي ما زلت أحاول التشبث بها، بالرغم من أنني بكل بساطة دائماً أنسى أنه قد مرّ على الثورة 7 سنوات كاملة.
أنا من ذلك الجيل الحزين الذي يقوم بعمل بث مباشر في منتصف الليل للحديث عن تجربته الماضية مع الاكتئاب، مثل صديقي عبد الرحمن الذي كانت معظم مشاركاته توحي بالصفاء النفسي، اتضح فجأة أن له تجربة حزينة، وأنا من ذلك الجيل الحزين الذي تقوّس ظهره من العمل أكثر من ثلثي اليوم؛ ليستطيع أن يغطي مسؤولياته وأعباءه ويُعاتَب من جيل الآباء بأنه جيل مُترف لا يتحمّل مسؤولية، كأن شعار المرحلة تلك الأغنية لحسين الجسمي "محدش مرتاح"، والتي نستمعها كأنها نشيد الصباح في العائلة، بينما تكوي زوجتي ملابسها للخروج للعمل وتتجهز ابنتي تالا للذهاب إلى الحضانة، وأحاول أنا أن أستجمع قوة تؤهلني لخوض رحلة بائسة تبدأ من الخروج من البيت وتمر بشارع الهرم وما أدراك ما هو؟!
أنا من ذلك الجيل الحزين الذي فوجئ بنفسه وسط حقائق دينية وكوارث عقائدية تضرب فوق رأسه بمطرقة، فيدور الكون من حوله وكأنه في حالة سُكْر والعالم يهزي من حوله، أنا من ذلك الجيل الذي لا يدري هل أخطأ في حق ربه وابتعد عنه حينما سمح لنفسه بأن انكشفت له حقائق عقائدية مغايرة لما ورثه؟ أم هو أصبح أقرب بأن بدأ يعيد تفكيره في علاقته به؟ وإن كان قد اقترب من الله، فلماذا يتركه عالقاً في الطريق؟ فلا هو رضي براحة الجاهلين، ولا وصل إلى لذة العارفين.
أنا من ذلك الجيل الحزين الذي راوده حلم وأمل بالتغيير إلى الأفضل، وفجأة انهدم كل شيء فوق رأسه، ولا يملك من ذكرى أمل التغيير سوى ميدان ساهم يوماً ما في تنظيفه بعدما طارت أرواح الأمل، وظل اليأس حصى يعيق السائرين على طريقهم، نعم، أنا من ذلك الجيل الحزين.
أعلم أنك في النهاية تنتظر منّي أن أنهي مقالي هذا بفقرة تحمل الإجابة كما دائماً في الأفلام، بأن تظل الأمور تزداد في التعقيد حتى إذا بلغت الذروة أتى المؤلف بالحل والنهاية السعيدة، وأنا أيضاً أتمنى لو استطعت أن أفعل ذلك، ولكني لا أستطيع أن أفعله، وإن فعلت سيكون كذباً، وإن فعلت، ستعلم أنت أنه سيكون كذباً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.