نفترض أنك ترغب بمشاهدة فيلم، في التسعينيات ستقوم -وهو الحل الوحيد والأرخص ثمناً- باقتناء شريط فيديو، حالياً تستطيع الجلوس بالقرب من مقهى ومشاهدة الفيلم بالمجان عبر تقنية الـWi-Fi.
مضمون الفكرة هو الاستفادة من خدمة مجانية، وهو الأمر الذي لم يسبق حدوثه بتاريخ الاقتصاد، وهو أيضاً ما يميز اقتصاد القرن 21 عن اقتصاد القرن 20؛ حيث الخدمات المجانية لاقتصاد التكنولوجيا والشبكات الافتراضية تكتسح اقتصاد الصناعات الثقيلة.
لو أنك اليوم تفكر بمشروع حول وضع تطبيق للتعارف مقابل دفع العملاء 1 دولار لتسجيل حساب، فهذا يعني إما أن لديك مشكلة بدماغك أو أنك نصاب؛ لأنه كيف يعقل أن تستثمر في خدمة بالدفع هي بالأصل مجانية، ولن تصل بمستواها لخدمات شركات كبرى كفيسبوك وإنستغرام وسنابشات بخدماتها المجانية؟ وما يميز اقتصاد الخدمات المجانية أن أرباحه تفوق أرباح اقتصاد الصناعات الثقيلة!
سابقاً كان التنافس حول جودة السلع، ومع نمو السوق الآسيوية صار التنافس حول تخفيض ثمن المنتجات، اليوم هناك تنافس حول الخدمات المجانية.
هو بالطبع لن يصير كل شيء مجانياً بين ليلة وضحاها، لكن باكتساح اقتصاد التكنولوجيا والإنترنت للعديد من القطاعات، فقد يسمِها بطابع المجانية – أو الاقتراب من قيمة الصفر.
نأتي لافتراض يقربنا أكثر، لو أنك ترغب بالغناء، في التسعينيات سيتوجب عليك إنتاج شريط وبيعه، الآن لا! ليست هناك طريقة أسهل من عرض أغانيك بالمجان على موقع YouTube.
ولكن كيف يمكن درّ أرباح في ظل المجانية؟ الربح في اقتصاد المجانية لم يعد واضحاً كطريقة البيع والشراء، فطالما أن عملة اقتصاد المجانية غير واضحة بعد، فإن الأرباح تتم بشكل جانبي من خلال الدعاية.
ففي مثال الغناء، فالمغني الذي اتبع معيار المجانية يمكن أن يقيم حفلات بأرباح مضاعفة مقارنة بمغنّ لا يعتمد معايير الاقتصاد الجديد في الإنتاج (لأن مغني YouTube حقق شعبية واسعة من خلال خدماته المجانية).
بالنسبة لمن يروجون فكرة الربح عبر الإنترنت، هم أنفسهم لا يربحون شيئاً! هل تعتقد بأنهم لو كانوا قادرين على جمع ثروات عبر الإنترنت سيكشفون لك الطريقة؟! كل ما هنالك أنه يتم نشر مواضيع من المنتديات بالعربية أو مترجمة مثلما كان يفعل مروجو البرمجة اللغوية العصبية وتطوير الذات مع اقتصاد القرن 20 بفكرة تأسيس ثروة بدون رأسمال! بماذا بالتنويم المغناطيسي؟! الأمر كله دعاية لأنفسهم للقيام بدورات ربحية! فالدعاية هي المسألة الواضحة هنا، وبالعودة للمغني فإن وضعه للأغاني بالمجان "ليس لأجل أعين معجبيه"، بل لأن المجانية هي المعيار الذي أخذ الأولوية اليوم بعالم النجاح والأرباح.
لأول مرة في مجال العروض الترفيهية يشهد هذا القطاع مجانية في تقديم العروض، فقديماً يجب أن تدفع نقداً للفنان حتى يعرض موهبته -سواء في الغناء أو أي مجال- اليوم بتنا نرى عروض المواهب التي تقدم إنتاجاتها بالمجان، مقابل الأرباح التي ستأتيها فيما بعد مع تزايد الشهرة.
وليس الأمر تسويقاً؛ لأن الخدمات المجانية لها تسويقها الخاص، مثلاً يتم التسويق لمسلسل سيبث بالمجان على الإنترنت، أو ينشر المغني مقطعاً دعائياً لأغنية سيضعها بقناته بعد أسبوع بالمجان.
هنالك أمثلة عديدة حول معيار المجانية الذي لا نلاحظه بحكم الاعتياد وسرعة اكتساح الاقتصاد الجديد للقطاعات.
بالمقاهي يتم تقديم خدمات بث المقابلات الكروية (التي يدفع ثمن بثها صاحب المقهى) بالإضافة لخدمة Wi-Fi، دون تغيير ثمن المشروب، وبالمقابل أرباح خلال زمن بث المباريات مضاعفة مقارنة بسائر الأيام العادية (وخدمة بث المباريات تسير هي كذلك نحو المجانية اليوم عبر الإنترنت والقنوات الرياضية الجديدة).
الجرائد صارت تقدم أخباراً فورية بالمجان بمواقعها، بدل بيع أخبار الأمس بنصف دولار، وبالمقابل زيادة شعبيتها ومتابعيها، الأمر الذي يدر عليها أرباحاً عبر دعايات الويب.
اقتصاد القرن 21 يغير العديد من جوانب اقتصاد القرن 20 الذي تنقلب معاييره باكتساح معيار المجانية للقطاعات؛ حيث الشركات تتنافس حول تقديم الخدمات المجانية.
وبتزايد قوة التكنولوجيا التي تساهم في تخفيض كلفة الإنتاج، يشير المهتمون الاقتصاديون إلى عدم الاستغراب من انهيار أثمان المنتجات بالمستقبل.
زيادة على أن الأجيال الحالية مندمجة مع الاقتصاد الجديد (تشك في الخدمات غير المجانية بالويب) عكس ذلك مع الاقتصاد القديم الذي تواجه فيه صعوبات، كالبطالة والدخل غير القادر أو غير الكافي والديون.
قارن ثمن مكالمة تليفونية قديماً مع مكالمات الفيديو اليوم التي يقرب ثمنها للصفر.
وقبل فترة حاولت شركة اتصالات مغربية جعل خدمة واتساب مدفوعة وفشلت! هذا يكشف لنا كيف تسعى عقلية اقتصاد القرن 20 للوقوف أمام اقتصاد القرن 21 الذي تفشل في مجابهة قوته التكنولوجية وخدماته المجانية.
الصحفي كريس أنديرسون Chris Anderson يطلق على اقتصاد المستقبل اسم "بزنس صفر دولار"، وله حوارات وفيديوهات وكتب حول الموضوع أشهرها كتاب "بالمجان Free".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.