أعرف، بدايةً، لهب النيران المشتعلة داخل نفس كل مظلوم في بلدي، بخاصة أولئك الذين يعانون آلام افتقاد أخ أو دفء أنفاس زوج أو قرب ابن، فضلاً عن بكاء أبناء لا يجدون الأب والعائل، وأدرك في أعمق نقطة من الشعور أن مشاعر الألم نتيجة قتل الأبرياء الشرفاء لا تطفئها محيطات العالم.
ومع تسليمي بأن قبول عذر لمجرم أمر لا يقوم به شريف مخلص، إلا أن الصورة التي تبدو لكل عاقل حول وطني مصر اليوم تثير قلاقل لا يمكن لذي ضمير التغاضي عنها أو الرضا بها، وهي تخبر وتشي بأن مقبل الآلام أفدح وأقسى، ولعل آخر هذه الأحداث مهزلة، الجمعة الماضي، شاهدة على الإهمال والتردي الذي وصلت إليه الكنانة.
ورغم أن الحسرة تُلم بقلوب الجميع بداية من معارضين يحاولون أن يكونوا مُناهضين للنظام، ومنهم مَنْ يتمنى لو استمر المسار الديمقراطي في مصر للحفاظ على هذه الأرواح، ومنهم مَنْ لو استطاع لنال بيده من زيادة من 50 من ضباط الأمن الوطني وغيرهم بيده لا بيد الإرهابيين.. ونهاية بالطرف الآخر واشتعال الرغبة في الانتقام مجدداً ومحاربة كل شريف مؤيد لرفعة الكنانة لدى عديمي الضمير من أنصار النظام الانقلابي الحالي.
ورغم أن الحسرة تلف قلوب الجميع فمن المؤسف أن الحادث الأخير على جسامته لن يكون آخر الأحداث التي ستمر في مصر في المدى القريب والبعيد.
والحقيقة أن "مجزرة الواحات" يعترف القلم أنها تدمي كل حُر، إن لم يكن لسقوط كل هذا العدد من مصريين فلأنها تعمق الفجوة وتزيد من مساحة الدماء وشهوة الانتقام بين أبناء الوطن الواحد، وقد يكون بين المقتولين فيها قتلة منذ أمد قريب أو بعيد.. ولكن مَنْ أقر مجرد إقرار أن معاملة القاتل تكون بالانسلاخ من القانون ومن قبله الدين وتحكيم شريعة الغاب؟ وإن ارتضينا لأنفسنا مثل هذه الطريقة والأسلوب في الثأر فلماذا نرفضهما من غيرنا إذاً؟
والحقيقة أيضاً أن النظام الانقلابي وعلى رأسه قائده "عبد الفتاح السيسي" يحاول سواء أدري أم لم يدرِ، أقصد أم دُفِعَ بيد أعداء الوطن، فإن الانقلابيين يتعمدون الزج بمصر وإدخالها في أتون "الحرب الأهلية"، رغم عدم موافقة ذلك لنفسية المصريين ومحبتهم الحياة على النحو المعروف لدى مجتمع زراعي ألِفَ وأحبّ الحياة منذ آلاف السنين على رغم تاريخ ممتلئ بقبول الظلم والقسوة من جانب الحكام.
إننا أمام نظام يتفنن في كل حين في الإجهاز على الوطن، ويكفيه إهمال معالجة البطش والظلم الذي يقتل أحشاء البلاد، والطائرات مُعدّة عند النهاية للقادة الكبار للهروب إلى الخارج، وما هي إلا أن تدور مراوح الإقلاع ليكونوا على غير تراب الكنانة، وربما أداروا أمورها من بلد آخر فيما بعد.
والحقيقة الأقسى أن ظلال ما يُسمى "العشرية الجزائرية السوداء" ليلحق فوق رؤوس المصريين بقسوة، وإن الدماء المتجددة على نحو لا يدري القاتل مَنْ يقتل والمقتول فيما قُتلَ، كما حذر الرسول -صلى الله عليه وسلم0 لتقترب أكثر.. وأن الحبل البالي المُهترئ من طول الظلم والعجرفة والتكبر من جانب الأنظمة العسكرية المصرية ليوشك على الفكاك والتمزق تحت قسوة الضربات في السنوات الأربع الأخيرة، بالإضافة إلى الأشهر الثلاثة.. أو منذ الانقلاب العسكري بما يُوحي أن النظام بالغ الضعف لا يستطيع التماسك، ولكن أكابره يريدون البقاء حتى لو استوجب الأمر تدمير البلد والخروج من بين أنقاضه.
والوضع الحالي لا يوحي بالمسؤولية على المجرمين القتلة من الانقلابيين، وواهم وغير مدرك تماماً لما يحدث مَنْ يظن هذا، والأمر رغم قسوته معلق بتفهّم القوى الثورية المصرية بخاصة الإخوان المسلمون، وأعتقد أن لحظة الإفاقة حانت، ويكفي تصديراً لخطاب المأساوية وعدم الإمكان أفضل مما كان، والاستسلام للمصير المجهول للجماعة والوطن في سبيل النصر المُنتظر دون إعداد أو مجرد تصور، وإن قيادات إخوانية بخاصة من الجبهة التاريخية تعرف أن الحل في قبضة يدها، لكنها لا تستطيعه خوفاً من عدم إطاعة الصف والمزيد من الانشقاقات بخاصة من جانب الشباب.. في ظل إصرار تلك القيادات على ترديد خطاب النصر المزعوم، وفي نفس الوقت جس النبض لموقف الباقين من الصف تحت إمرتها حول المصالحة مع النظام.. من مثل التصريحات المترددة التي تصدر من حين لآخر من جانب الدكتور "إبراهيم منير" ثم يعقبها اعتذار.
ومع تسليم صاحب هذه الكلمات بأن الأمر ليس اسمه "مصالحة" بل ربما "إعادة بناء لمنظومة الوعي" بدايةً من داخل الجماعة نفسها ثم المصريين، وإنه حتى إعادة البناء هذه تستوجب خطوات من مثل إحراج "السيسي" عالمياً عبر خطة مدروسة تراعي الواقع والنتيجة المطلوبة.. ويبدو ويظهر الإخوان من خلالها دعاة لنهاية الوضع الحالي، على نحو يحدده مجاهدو الداخل الحقيقيون، بعيداً عن الخارج والقيادات المدعاة.. مع تسليم صاحب هذه الكلمات بضرورة إنهاء الوضع المأساوي الحالي الذي يتضرر الوطن منه ويتزلزل وتعاني تبعاته جماعة الإخوان وجميع المخلصين.. وأنه في ظل هذه الملابسات لا يكفي طرف من الإخوان بيان استنكار، بل إلقاء بحجر كبير في أتون الوضع المصري الحالي، وبالتالي إعلان الجميع وضع السلاح، ونفي اشتهاء القتل، ومن ثم تدور رحى محاكمات لكن عادلة على كل مدان أياً مَنْ كان بداية من أنصار النظام، وهو أمر غير بعيد على الله، لكن لما يقبل الإخوان بشيء من التوازن لا التنازل.
إن مصر التي تتعرض للسقوط بقسوة لن يضر سقوطها "السيسي" كما يتوهم البعض، بل سيضر الإخوان وكل مخلص.
وإن الخطب الجلل يستدعي من الجميع التفكير في الخلاص منه ووضع حد لطوفان الدماء والكُره المتبادل الحالي، من أجل أن تبقى بلادنا أو ما تبقّى منها لأجيال قادمة من بعدنا إن لم تكن للمصريين اليوم أيضاً!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.