أول مرة في حياتي أسمع عن وجود تيارات إسلامية كانت في عام 1972، عندما حاول أتباع الشيخ (أحمد كفتارو)، مفتي السلطة في سوريا، وأحد جنود الفرق الصوفية من أتباع محيي الدين ابن عربي، المتحالف مع حافظ أسد، وبالاتفاق مع أجهزة المخابرات، غزو الريف الدمشقي، لنشر التيار الصوفي، مصدر الشرعية الدينية لكثير من الأنظمة في الدول الإسلامية.
تلك الغزوة حفزت عناصر من الإخوان المسلمين، الذين لم يعترفوا لنا مرة واحدة بانتمائهم للجماعة، للتحرك والرد على استقطاب اليافعين، فكنت مع بعض من رفاقي هدفاً لكلا الفريقين، مترددين بين هؤلاء وهؤلاء، فوضعنا قدماً هنا وأخرى هناك، إلى أن استقر كل منا في اتجاه.
كلا الفريقين كان جاداً في استقطاب الشباب بكل ما أمكنه، وحريصاً على جمع الأتباع، لدرجة جعلتنا نشعر -نحن اليافعين- أن هناك صراعاً مفتوحاً على كل الاحتمالات، والمسألة لا تتعلق بنشاط أفراد فحسب، وإنما قرارات متخذة على مستوى أعلى، من خلال أساليب تبين فيما بعد أنها راسخة كالعقيدة، لا تتغير بالظرف والأحوال، يستنسخها الأتباع بتوافق عجيب، كأنها صادرة عن مراكز للقرار تابعة لمؤسسات، وهي كذلك، عرفناها بعد سنين طويلة بعدما جمعنا أجزاء الصورة.
كان اعتماد "الكفترجية" على الدروس في المساجد أساسياً، يعنون خلالها برواية قصص "لا سند لها" (حدثني قلبي عن ربي)، بقصد غرس التبعية والخضوع في نفوس المريدين، ثم حلقات الذكر التي تستمر لساعات، وهي شبيهة بجلسات اليوغا، للتدريب على الصبر والتأمل، مع اهتمام خاص بالأناشيد والمدائح النبوية، والاحتفالات بمناسبة وسواها كالمولد النبوي وعاشوراء… ولم يكن خافياً الود القائم بين (جماعة كفتارو) وبين السلطة القائمة، إلى حد التمتع بنفوذ في دوائر الدولة المختلفة، يقدمون عبره الخدمات للمريدين، بواسطة تلك الجملة السحرية: (أنا من قبل الشيخ فلان)، بما فيها التوظيف، والبعثات خارج القطر، ثم وبعد تمدد التيار السلفي، تبين أن هناك تعاوناً أمنياً (تجنيد مخبرين في المساجد والمعاهد، والسيطرة عليها، كمسجد الفتح، ومعهد أبو النور، التابع لأحمد كفتارو، ومراقبة الطلبة السوريين، والقادمين من دول أخرى)، ثم تناسل مؤسسات رديفة (القبيسيات، معاهد تحفيظ القرآن…) لمحاصرة التمدد السلفي، والانخراط في نشاط النظام السياسي والمجتمعي (الدعاية الانتخابية لمرشحي حزب البعث، القائد للدولة والمجتمع، بل والدعاية الخارجية لإضفاء الشرعية الدينية على النظام، وسيد النظام حافظ الأسد، المنتمي لطائفة تقول عن نفسها إنه لا علاقة لها بالإسلام).
أما الإخوان المسلمون، فقد كانوا مهتمين بتقديم الخدمات الحياتية، ولم يكن أحسن منها في ذلك الوقت سوى دروس التقوية في مناهج الدراسة، يُضاف إليها حفظ سور من القرآن الكريم، والأحاديث النبوية… وما هي إلا بضع سنين حتى بدأوا بالتلاشي، بعد ثورة نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن العشرين، في القبور أو المهاجر أو السجون والمعتقلات، وأصبحت كلمة إخوان كافية للإعدام، خصوصاً بعد صدور القانون 49، الذي يحكم على المنتمي للجماعة بالإعدام.
فيما بعد، ومن خلال الاطلاع على نشاط الإخوان في دول عربية عدة، ظهر الآتي:
معظم أفراد الجماعة أشخاص منتقون بعناية: فهم على درجة عالية من العلم والثقافة والروح الإيجابية، أذكياء، لهم مساهمات هامة في مجتمعاتهم، يحملون شهادات عليا في الطب والهندسة والقانون، وأساتذة جامعيون، منتشرون في جميع قارات العالم، يعتمدون على عملهم ونشاطهم في مجالات حياتية واسعة، نزيهون، شرفاء، محط ثقة، وذوو مصداقية، يجمعون بين المسجد والعمل العام، بمعزل عن الأجهزة الحكومية، يبنون مشاريعهم الخيرية ومدارسهم ومستشفياتهم بأنفسهم، ويؤسسون المشاريع الضخمة التي تعجز عنها دولهم، سبّاقون للخير، ونشر الفضيلة بين الأجيال، يحملون على عاتقهم جزءاً كبيراً من واجبات الدولة تجاه مواطنيها، على الرغم من أنهم محاصرون في معظم الدول الإسلامية، تهاجمهم بشراسة أجهزة إعلامية ضخمة، بشكل مستمر، منذ قرر جمال عبد الناصر الانقلاب عليهم وحذفهم من المجتمع المصري، والتاريخ، ومن بعده حافظ الأسد، والقذافي، وسواهم في معظم الدول العربية.
تؤدي الجماعة، في عدد من الدول العربية (مصر، الأردن، الكويت، اليمن، المغرب، تونس، السودان، الجزائر…) دوراً محورياً في الحياة الاجتماعية العامة، على المستويين الفردي والجماعي، يشمل مجالات حياتية واسعة، تهدف لمساعدة الناس، مثل: رعاية المرضى، من خلال افتتاح المراكز الصحية المجانية، أو قليلة التكلفة، وإنشاء الأسواق الخيرية لتقديم السلع الرخيصة أو المجانية، وكفالة الأيتام ومساعدتهم (تيسير زواج اليتيمات، وتشغيل أمهات الأيتـام، واستضافة الفتيات اليتيمات والمغتربات)، ثم رعاية المعاقين، ومساعدة طلاب العلم، وتوفير المقابر الشرعية، وحتى بناء مساكن للفقراء، ومد يد المساعدة بتقديم المنح العينية والمادية، وإغاثة المنكوبين… وقد شكل نشاط الجماعة في حادثة الزلزال الذي ضرب القاهرة صدمة للدولة المصرية (الجيش، الشرطة، أجهزة الأمن، الأحزاب، النقابات…)، عندما تصدت بسرعة لإغاثة المنكوبين وإيوائهم وتقديم الأغذية الضرورية، في الوقت الذي كانت فيه أجهزة الدولة تقف حائرة من دون فعل… ويبدو أن تلك النشاطات هي ترجمة لما ذهبت إليه الجماعة منذ تأسيسها عندما قامت بإنشاء قسم (البر والخدمة الاجتماعية) عام 1945م.
وفي دول أخرى (الأردن): توسعت مؤسسات الجماعة في نشاطاتها حتى شملت الخدمة التربوية: فقد أنشأت عدداً من المدارس بمراحلها المختلفة، وأسست كلية المجتمع الإسلامي، ودعمت وشاركت في تأسيس جامعة الزرقاء الأهلية، ثم امتدت حتى بناء المشاريع التي توفر فرص عمل للشباب، وضخ المال في ميزانية الدولة، وسدت خللاً عجزت عنه الحكومات.
أما في الكويت، فقد أهل نشاط الجماعة المشرف لأن تكون درة العمل الخيري والإغاثي ليس في المنطقة العربية والإسلامية فحسب، وإنما في العالم، ولعل الراحل الدكتور (عبد الرحمن السميط) الذي شرف العرب والمسلمين بخدماته الرائعة، التي قام بها في قارتي إفريقيا وآسيا خير شاهد على ما للجماعة من أياد بيضاء في العمل العام.
في سياق الحملة على الإخوان المسلمين، كثيراً ما يتم الحديث عن تمويل الجماعة، للدلالة على تبعيتها لدول وأنظمة توظفها لمصالحها، لم يثبت من ذلك شيء غير ما هو معروف، فالثابت المعلوم أن مصادر التمويل تأتي من التبرعات التي يقدمها القادرون مادياً، وهي غير ثابتة، مثال ذلك: العمل الجبار الذي قام به الدكتور عبد الرحمن السميط، ابتدأ من تبرع بعض الموظفات الكويتيات، وقد ذكر الراحل أنه لم يكن سعيداً بِمنَح بعض الدول التي كانت تُفسد العمل الإغاثي، ثم تبرعات ثابتة من بعض الدول، كالكويت وقطر.
هنا يمكن الإجابة على السؤال: لماذا الإخوان المسلمون؟
لأن جميع أنظمة الدول التي يتواجدون فيها ينظرون بريبة لنشاط الجماعة: الاجتماعي والاقتصادي والتربوي… ضيقاً من كسب محبة الناس وتأييدهم، في دول يحكمها "آلهة" يرتابون لأي نشاط غير نشاطهم، ويعتبرون ما يحصل عليه المواطنون منحة ومكرمة منهم، يرعون الفقر والجهل ضماناً للتبعية والاستمرار، وخشية من انفراط سيطرة الدولة على المجتمع؛ لذلك، كان من أولويات سلطة الانقلاب في مصر، إغلاق الجمعيات الخيرية، ووقف المشاريع الاقتصادية أو مصادرتها، ومنع جميع النشاطات المدنية التي تعنى بتقديم خدمات للمجتمع المصري، وملاحقة المتبرعين باعتبارهم ممولين للإرهاب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.