للوحدة أصول

وفي نهاية اليوم، تدق الثانية عشرة دقتها؛ لتذكرني كم أنا بائسة وحيدة؛ لأنه عقب الكم الهائل من الأشخاص الذين قابلتهم وآلاف الأشياء التي تصنّعت اهتمامي بها طوال اليوم عقب كل الأحاديث التي دارت والحكايات التي قصصتها أو قُصَّت عليَّ- ما زلت أواجه الحياة بمفردي.

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/28 الساعة 04:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/28 الساعة 04:40 بتوقيت غرينتش

صباح يوم جديد أجاهد فيه نفسي استعداداً لمواجهة كمٍّ آخر من البؤس والنفاق والتعاسة، ابتسامة صفراء أرسمها على شفتيّ في بداية اليوم، وأتقن صنعها حتى إن الجميع يظنها ضحكة صادقة نابعة من قلبي، أنشغل طوال اليوم مع أشخاص لا يعنيني أحد منهم في شيء، أنصت إلى أشياء لا تهمني مطلقاً وأتصنع اللامبالاة تجاه كل ما يحدث حولي، أحاول كسب محبة الحياة، التي لم ولن تحبني أبداً، وأتعمد أن يمر يومي بسلام قدر الإمكان.

وفي نهاية اليوم، تدق الثانية عشرة دقتها؛ لتذكرني كم أنا بائسة وحيدة؛ لأنه عقب الكم الهائل من الأشخاص الذين قابلتهم وآلاف الأشياء التي تصنّعت اهتمامي بها طوال اليوم عقب كل الأحاديث التي دارت والحكايات التي قصصتها أو قُصَّت عليَّ- ما زلت أواجه الحياة بمفردي.

ومع دقات ساعات الليل المتأخرة، يحثُّني قلمي على الإمساك به؛ لأحكي ما تعمدت إخفاءه طوال اليوم؛ لأن الحبر ربما يعدُّ أنسب وسائلي للتعبير عن ذاتي وما يؤرقها من هموم وأحزان تتكاثرعليَّ في أوقات الليل الموحشة.

والحقيقة أن العلاقة بيني وبين قلمي متوطدة، حتى إنه يعدُّ الأُذن المصغية الوحيدة لي في هذا العالم البائس، فهو يسارع أنفاسي ويكتب ما يؤرقني قبل أن ينبض به قلبي أو ينطق به لساني. ولكن، هذه المرة للدموع رأي آخر، فها هي تنافس قلمي وتخطُّ بقطراتها كلمات فشلت أقلام العالم كله في التعبيرعنها.

أتعجب أقصى درجات العجب من أولئك الذين تقسو عليهم الحياة فيسارع آلاف الأصدقاء والأحبّة بسؤالهم عما يؤرقهم فيمتنعون عن الإجابة، أود لو أن بإمكاني إخبارهم بأنهم في نعمة لا يشعرون أبداً بقيمتها، وأن على وجه هذه الكرة الأرضية هناك شخص ما يتمنى لو أن بشرياً يسأله لمرة واحدة عما يؤرقه في تلك الحياة بدافع الاهتمام وليس الفضول، يتمنى لو أن هناك أذناً مصغية أخرى غير الحبر والدموع تشاركه الأحزان، يتمنى لو أن هناك من يحنو عليه، لو أن هناك من حقاً يهتم.

لكن هيهات، للوحدة أصول، منها ألا يسألك أحدهم عن أحوالك بجدية أبداً، وإن حاولت في مرة التلميح لأحدهم بما يؤرقك فسيتصنَّع أنه لا يبالي، أو هو بالفعل لا يبالي؛ فهو لديه من المشكلات ما يكفيه، ولو أن لديه بعض الوقت فهناك أشخاص أكثر منك أهمية لا بد أن يتفقد أحوالهم.

ومن أصول الوحدة أيضاً، أني بعد مرور سنواتٍ من "لا أحد يهتم "، تعلمت ألا أشكو أبداً حتى لو وصلت لأقصى مراحل الوجع، ليس فقط لعدم وجود شخص لديه استعداد للإنصات لشكواي؛ بل لأني اعتدت الموقف فصرت أتقبّل كل آلام الحياة بنفس راضية، أشكو لنفسي وأتخطى كل شيء وحدي.

لكن هذا لا يعني مطلقاً أني لا أعاني، ربما أتعمد إخفاء أوجاعي قدرالإمكان، لكن أقسم أني أتأثر بأقل الأشياء حدّة، وأن أبسط كلمات الهزل تترك أثرها في قلبي وعقلي شهوراً، وربما سنوات، وتلك ليست تفاهة أو "دلعاً ماسخاً" من جانبي؛ بل كل ما في الموضوع أني تحملت من الحياة ما يكفي، فكل شيء يحدث بعدها أواجهه كأنه القَشَّة التي تقسم ظهري، وما أكثر تلك القشات في حياتي!

إن الاعتذار شيمة العظماء، لكن للوحدة رأي آخر، فاعتذارات البشر لا جدوى منها في المطلق؛ فلا هي تخفف آلامي ولا حتى تُظهر لي كونك مهتماً؛ لأنه في حال أنك مهتم فلن تفعل ما يثير غضبي من الأساس؛ ولهذا أتقبّل اعتذارات البشر بصدر رحب جداً مهما زاد حجم الخطأ الذي يعتذرون عنه، ربما لأن أفعالهم لم تثرغضبي من البداية؛ لأني اعتدتها.

لهذا، أتعامل مع الأشخاص بمبدأ "يا عم.. هي يعني جت عليك!"، لست وحدك من يثير غضبي؛ بل العالم بأكمله! إذن هل ستفارقني؟ فلتفعل، ستخون ثقتي بك؟ انطلق، ستنافقني؟ هيا، ستتكلم عني من وراء ظهري؟ لا مشكلة، ما الناتج في النهاية! سأحزن؟ بالطبع. سأبكي؟ بالساعات. سأكتئب؟ بالتأكيد، سأكره نفسي وحياتي؟ لا يمكنني الإنكار.

لكن هذه كلها أشياء طبيعية تحدث يومياً في حياتي بك أو من دونك، فأنا أحزن وأبكي وأكتئب وأكره نفسي وحياتي بالفعل كل يوم، فاصنع ما شئت فلن أتأثر أكثر؛ لأني وصلت بالفعل لأقصى مراحل التأثر!

وكذلك من أصول الوحدة، أني لا أشعر أبداً بوطأتها طالما أشغل وقتي بأشياء أخرى، والحقيقة أني أحاول بالفعل أن أشغل وقتي بقدر الإمكان، أتعلم كل شيء وأعمل في كل شيء؛ لأنسى كم أنا وحيدة، لكني أتذكر وحدتي فوراً في أول لحظة أضطر فيها إلى أخذ قسط من الراحة، فالمعضلة كلها تكمن حين ينتهي ما يشغل وقتي، أو حين أخلد إلى النوم مثلاً فيتكاتف عليَّ الـ overthinking، ويذكرني بالقديم والجديد.

هذا بالإضافة طبعاً لتلك الأوقات التي تجبرني فيها الحياة على الوحدة رغماً عن أنفي، فأجلس وحيدة بين كل محاضرة والأخرى في الجامعة، الكل لديه من الأصدقاء ما يكفيه وأنا لا أجد أبداً ما يمكن أن أفعله، وربما لهذا السبب تمثِّل لي الحياة الجامعية بؤرة من الكآبة والتعاسة، فأينما وُجدت في الجامعة أشعر بأني وحيدة لا أنتمي مطلقاً إلى هذا المكان.

وكذلك، حين يعجبني فيلم سينمائي جديد، حفلة أو سفرية أو حتى مسرحية ولا أجد من يشاركني شغف الحضور، حين أرغب في التسوق وتعجبني عدة أشياء لا أجد من يمكنني الاستعانة برأيه فيها، حين أجلس وحيدة في أحد الكافيهات والكل محاط بعدد مهول من الأحبة والأصدقاء، حين وحين وحين…

حتى إني بتُّ لا أستطيع تخيُّل هيئة الحياة في وجود أشخاص آخرين، كل أحلامي أتخيلني فيها وحيدة، كل طموحاتي أخطط لتحقيقها وحدي، وكل محاولاتي للتقرب من البشر تبوء بالفشل الذريع؛ لأن المكانة الثانية لا يمكنها أبداً أن ترضيني؛ فإما أن أكون في المكانة الأولى وإما لا أكون؛ ولهذا دائماً لا أكون.

رغم ما أعانيه من يأس، فإن ضحكاتي عالية صاخبة مزعجة، تثير حنق الجميع. وصراحة، علمتني الوحدة أن أضحك بكل ما أوتيت من قوة، حتى إني أصبحت أضحك لا إرادياً على أبسط الأشياء، بما فيها ما لا يستدعي الضحك من الأساس، حتى لو كانت تلك الأشياء محاولة للتقليل من شأني أو السخرية من تصرفاتي أو شخصيتي.

فأنا أواجه كل شيء بالضحك، فأضحك والكل شيمته الصمت، أضحك ولا أحد يفهم ما الخطب، أضحك فأتلقى تعليقات سخيفة من البشر أجمعين وأتظاهر بأني لا أبالي، أضحك والبعض يظن أني فقدت عقلي أو شيئاً من هذا القبيل!

ولكني لم أفقده؛ بل كل ما في الموضوع أني لو توقفت عن الضحك فسأبكي بحرقة ليست مفهومة بالمرة. والحقيقة أني أظل أضحك بلا توقف على أتفه الأشياء والنكات والسف والسخرية والهزل، وفي المساء حين ينتهي يومي أطفئ الأنوار وأبكي بحرقة كل ما ضحكته طوال اليوم.

لهذا، أؤمن بشدة بأن البشر يسيئون فهم أنماط حياتي اليومية بدرجة كبيرة، أضحك بعلو صوتي فلا بد أني سعيدة جداً، شخص اجتماعي يتعرف بسهولة على الأشخاص ويندمج معهم فبالضرورة لدي من الأصدقاء عدد خرافي؛ دائماً أونلاين على مواقع التواصل الاجتماعي بكل أنواعها فبالتأكيد أحادث ملايين الأشخاص؛ ألتقط الصور باستمرار إذن أنا إما مغرورة وإما معجبة بذاتي.

والحقيقة أني لست هذه ولا تلك، فكل ضحكاتي الصاخبة لا تمثل مشاعري في شيء، كل الأشخاص الذين أتعرف عليهم تقف حدود علاقتنا عند السطحية أو ربما ما قبل السطحية بقليل، كل الأوقات التي أقضيها أونلاين على مواقع التواصل الأجتماعي أتحدث فيها إلي ذاتي عبر شات خاص بي صنعته عبر الواتساب وكذلك عبر الفيسبوك، وكل الصور التي ألتقطها ألتقطها لأني لا أجد ما أفعله سوى التقاط الصور.

وعموماً، وصلت لمستوى لا بأس به من الرضا بالحال، أصبحت لا أمانع الوحدة ولا أتذمر من كوني وحيدة، لكن ما يثير حنقي فعلاً وما لا أستطيع تجاوزه أبداً، هو أن البشر لا يرضون بوحدتي، كل شخص يحاول إقناعي بأني لست وحيدة بالمرة وأنه سيظل إلى جواري للأبد، باعتقادهم أن تلك المحاولات تخفف من آلامي، والحقيقة أنها تزيد آلامي أضعافاً وأضعافاً.

فقط، أتمنى لو أن الجميع يتوقف عن محاولة التقرب، وخاصة من يعلمون أنهم في النهاية سيذهبون ويتركونني وحيدة كما كنت، أتمنى لو يتوقف الجميع عن الحكم على تصرفاتي وتحليلها تحليلات استراتيجية بائسة.

الحق، أني أفعل كل شيء في أقل من ثلاث ثوانٍ ومن دون تفكير أصلاً في أي شيء، لكنكم تقفون بالمرصاد فتحللون كل موقف وتوابعه وما قصدت من ورائه كأننا في حرب لن يُكتب لها أبداً أن تنتهي!

أتمنى لو يتوقف الجميع عن قول كل كلمات السخرية التي تقال من منطلق الهزل؛ لأني لم أعُد أمتلك القدرة على تخطيها أو فهمها من منطلق السخرية أبداً، رضيت بوحدتي فيا ليتكم ترضون بها وتتركونني وشأني.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد