عبثية المشهد

وصلت بلادنا إلى وضع عبثي ربما لم يخطر على بال أحد أبداً من أربع سنوات فقط، وربما وصفْنا بالجنون من توقَّع مثل هذا المشهد، أو جزء منه على الأقل.

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/28 الساعة 05:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/28 الساعة 05:14 بتوقيت غرينتش

وصلت بلادنا إلى وضع عبثي ربما لم يخطر على بال أحد أبداً من أربع سنوات فقط، وربما وصفْنا بالجنون من توقَّع مثل هذا المشهد، أو جزء منه على الأقل.

الآن يكذب أكبر رأس في البلد كذباً علنياً تجاوز فيه كل ما نعرفه من معاني الوقاحة، ويكذب وهو يعلم تماماً أن المستمعين له يعرفون أنه كذاب.

الشعب يرى الآن كلَّ شيء رأي العين، يرى الأحداث صوتاً وصورةً، يرى مَن القاتل ومَن المقتول، مَن الظالم ومَن المظلوم، من اللص ومن الشريف، من الصادق ومن الكذاب، ومع كل ذلك يردد الحاكم ومعه جوقته (الجَوْقة: جماعة يقومون معاً بأداء رَقْص إيقاعي أو غِناء موزون) بكل برود أعصابٍ وهدوء نفسٍ الأكاذيبَ والافتراءاتِ، ويتهمون مَن لا يصدقها بخيانة الوطن، ويساندهم في ذلك بعض أبناء الشعب.

إزاء هذا يصير انتظار تحسن أحوال البلاد على يد رجال النظام نوعاً من العبث، وانتظار انفراج الأمور برغبته وإرادته نوعاً من العدم.

كما أن من ساندوه بالمال، ومن أمدوه بما يحتاج من سلاح، ومن صدَّروا له أدوات التعذيب، ومن ناصروه في المحافل الدولية، وأرغموا كثيراً من الدول على الاعتراف به والتعاون معه، هؤلاء جميعاً يرغبون في بقائه (رغم احتقارهم له) لأطول فترة ممكنة حتى يستخلصوا منه كل ما يقدرون عليه مما يصب في مصالح أنظمتهم.

يكاد يكون الخاسر الوحيد هو الشعب المصري بكل طوائفه، والشعوب العربية المغلوبة على أمرها، والشعوب الإسلامية التي كانت ترغب في رؤية نظام إسلامي حديث يجدد أمجاد الآباء والأجداد، ويستكمل مسيرة الأمة المسلمة التي وصفها ربُّها بكونِها "خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ".

وخسارة شعبنا المصري ومعه الشعوب العربية والإسلامية ليست خسائر من جانب واحد فقط، بل هي خسائر شاملة، خسائر معنوية، وخسائر اقتصادية واجتماعية؛ حتى صارت الكآبة لازمة من لوازم الناس اليومية، وصار اليأس قريناً لهم، والإحباط ظِلَّهم الذي لا يفارقهم في قيامهم وقعودهم وحلهم وترحالهم، ورغم أن بعضهم يحاول أن يخفف عما به من آلام بفرحته المبالغ فيها بفوز فريقه الكروي، فإنه سرعان ما يكتشف أن كل ذلك " كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً".

ومما زاد من الهم، أن بعضاً من الرافضين للنظام بدلاً من توجيه غضبهم إليه، آثروا الطعن والتجريح والتشكيك في بعضهم البعض، وتسلل اليأس والإحباط إلى نفوسهم، وجهر بعضهم بضرورة إعلان الندم لعل النظام يرضى عنهم، أو على الأقل يسمح لهم بالعيش الذليل مقابل السكوت عما جرى، والرضا بما يفعل، ويبررون ذلك بأننا ننتظر سنوح فرصة أخرى نلملم فيها شتاتنا، ونستعيد عافيتنا؛ لننطلق من جديد، متجنبين الأخطاء الكارثية التي وقعنا فيها.

نسي هؤلاء جميعاً أن دوام الحال من المحال، وأن الأوضاع الشاذة لا يمكن أن تستمر حتى لو رضي الناس بها، واستكانوا لحكمها.

كما نسوا أن الله تعالى لا يحاسبك على النتائج ولو كانت صفراً، وإنما يحاسبك على ما بذلت من جهد قدر الاستطاعة، ونسوا أيضا أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا أننا سنرى يوم القيامة "النبيَّ ومَعهُ الرَّهْطُ (الجماعة من ثلاثة أو سبعة إلى عشرة، أو ما دون العشرة)، والنبيَّ ومعهُ الرجُلُ والرَّجُلانِ، والنبيَّ وليسَ مَعهُ أحَدٌ"، وكون أتباع النبي قلة لا يقلل ذلك من قيمة الجهد الذي بذله، ولا من المكانة المحفوظة له عند الله تعالى، فقيمته ومكانته عند الله كانت بسبب قوة إيمانه، وبسبب اتخاذه بكل الأسباب التي استطاعها، لا بسبب كثرة المهتدين لدينه، والمتبعين لأمره.

كما نسوا أمراً آخر، نسوا أن الضعيف ربما انقلب قوياً، والقوي ربما صار ضعيفاً؛ إذ إن القوة والضعف المعتمدتين على ما تمتلكه من أدوات حالٌ متغيرة، فما تمتلكه اليوم قد تفقده غداً، وما تفقده اليوم قد تمتلكه غداً، وتأمل معي خطابَ الله -تعالى- للمؤمنين إذ قال لهم: "وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (الأنفال: 26).

على القلة المستضعفة أن تثبت على الحق الذي رزقهم الله به، وألا تستسلم لليأس.

فالصدمة الكبيرة التي تعرضوا لها كانت تهدف إلى تيئيسهم واستسلامهم، فإذا فعلوا؛ فقد نجح العدو، وإذا صمدوا واستمروا؛ فليستبشروا بنصر الله القريب الذي يأتي غالباً من حيث لا يحتسب أحد، قال الله -تعالى- في سورة الحشر: "هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ" الآية رقم (2) صدق الله العظيم، وكذب كل شيطان رجيم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد