لعبة الوقت

علمتُ لعبة الوقت في سنٍّ مبكرة، لكني تناسيتها مع مرِّ الزمن، لعبة الوقت أصعب ما يمكن ضبط قواعدها وتحمل نتائجها حتى لو كانت لصالحنا... ها أنا أعود بعد حين لأدرك بعد هذا العمر أنها من جديد ودائماً لعبة الوقت...

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/26 الساعة 09:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/26 الساعة 09:09 بتوقيت غرينتش

علمتُ لعبة الوقت في سنٍّ مبكرة، لكني تناسيتها مع مرِّ الزمن، لعبة الوقت أصعب ما يمكن ضبط قواعدها وتحمل نتائجها حتى لو كانت لصالحنا… ها أنا أعود بعد حين لأدرك بعد هذا العمر أنها من جديد ودائماً لعبة الوقت…

أحقاً مرَّ كلُّ هذا؟! كيف؟ الصعوبة ليست أن أتذكر، فأنا أستطيع سرد كل التفاصيل دون سهو أو نسيان.. لكن ما لا أستطيع هو أن أُعيد وزن هذه اللعبة، وتقبل قواعدها، وتحمل نتائجها… أعلم أن القادم سيكون أفضل -حسب التوقعات- وقد تكثر الفرص أكثر مما كانت عليه الحال، لكن أن أنتمي لهذا المكان يبعث الفرح، والأمل، والمحبة… إنه يعيد للبال انتظام الأسلوب وما تعلمتُه، وتيرة النظام وما استفدتُه، الإصرار وما أدركته…

أنا اليوم دمعت عيناي لما يحكيه.. رقَّ قلبي لأول مرة لما أسمعه.. كأنه الوحيد المتكلم.. ما يمليه حرَّرني لما أستطيع بلوغه وما لم يكن في الحسبان.. صدقه لا يحتاج لتوكيد لا لفظي أو معنوي.. صدقه يصلني دون حواجز.. نصيحته تجتاح تعنت التهاون وتلغيه وتوقظ كل العزم.. نظراته تمنح الأمل أن الأمان الموجود في الضفة المقابلة دائم ومريح رغم صعوبة المنال…

على هذا النحو ترجمت الكلمات، ما استوقفه الزمان لمدة عشر دقائق، وهو يخبرني: "سنة وتتخرجين، لكن يوجد دائماً ما يجب علينا القيام به بتفان…"، قالها هو بتوكيد، وتلميح على أنه لم يُنه كلامه بعد، وسمعتها أنا باستغراب، لم أع للوهلة الأولى ما يقصد، ولا مَن المقصود بكلامه، أدركت بعدها أنني كنت بحاجة لمن يذكرني أنني فعلًا أسابق الزمان في أشواطه الأخيرة من هذه المرحلة العمرية.

استكمل حديثه موصياً بالاجتهاد أكثر والمثابرة، مثبتاً أن العدو الأكبر لمن هم في مثل سني هو الوقت، وأن هزمه ليس بالأمر العسير ما إن توفرت الإرادة الحقّة؛ العزيمة القوية والصبر اللامتناهي، أكد ضرورة استغلاله عندما يمرح الآخرون، وعلى اختيار الصعاب بدل التعود على اليسر، استشهد خلال حديثه بمسيرة حياته وما واجهه من مشكلات، من الجيد أنه قام بذلك، فقد كنت سأستغرب بشدة إن هو استدل بغيره، حاول أن ينهي حديثه وهو يذكرني أن المتواضعين فقط من يستطيعون بلوغ التميز، لأنهم الوحيدون القادرون على التعلم، لكنه استطرد كلامه وكان مصراً على إنهائه بالعنصر الأكثر ترديداً خلال مقابلتنا، مشدداً من جديد على ضرورة مواجهة الوقت، بل استباقه دئماً بخطوة. غادر بابتسامة تقول: سأراك قريباً في مكان ومكانة أفضل، قابلتها بابتسامة تجيبه: أعدك بذلك…

من البديهي بعدها أن أعيد استحضار كل فكرة مما قيل، لأحاول بلوغ ما وراء المعنى، وبنائه. في خضم هذه المحاولة تساءلت لماذا أثار استغرابي توكيده على هاجس الزمان، فهو ليس بالأمر الجديد في المعركة التي نخوضها كل يوم، خاصة عند ارتباطنا بروتين يومي، حيث الالتزام هو العنوان الأبرز لأيامنا، والإجبار هو الصفة التي تلاحق مواعيدنا الدراسية والعملية، ففترة الشباب غالباً ما تأخذ عنوان وصفة الدراسة أو البحث عن فرص العمل أو هما معاً، وما بين الاثنين نسابق الزمان في محاولة للتوفيق ولِمَ لا التفوق، لكن الجديد الذي لاحظته أن القليل يعي ما يقوم به، دون أن يصبح إنساناً آلياً يقوم بمهمات رسمية محددة بفعل الوقت والنوعية، فالتلميذ والطالب والعامل والمشغل محكومون بجدول زمني يرتب، من خلال تأثير الدومينو، باقي الأنشطة اليومية، بل حتى الموسمية، لقد أصبح الجميع ينتظر عطلة نهاية الأسبوع، وإجازة الصيف، ظناً منهم أنهم يخططون لوقتهم ويختارون ما يناسبهم من مواعيد.

عذراً! فسباقكم هذا ضد الزمن محسومة نتيجتُه، فالأمر لا يكمن في تتبع جدول زمني مفروض أو مختار أكثر مما يحتاج التغلب على الوتيرة التي اعتدنا عليها، ومحاولة التمرّن على الصعوبة -كما أورد في نصيحته- إن عامل الانتصار لدى الوقت هو علاقته الدائمة بالصعوبة، وسبب خسارتنا المستمرة أمامه هو ارتباطنا الوثيق بالسهولة، لم نعِ بعدُ أن النجاح هو الشعور بالفرح في أشد لحظات الألم، لم نستشعر بعدُ نشوةَ اختيار العسر رغم إمكانية اليسر، من الطبيعي إذاً أن ننهزم عندما تُفرض علينا الصعاب، وتساعدها في ذلك عقارب الساعة.

من أبرز ما لاحظتُ خلال مسيرتي الجامعية، أن طالب الطب يدرس يومياً ما لا يقل عن عشر ساعات، دون احتساب جدول محاضراته -مُكرهاً لا مخيراً- في حين يختار طالب الاقتصاد في مدارسنا وكلياتنا أن يخصص ساعتين كمعدل يومي، لا تستغرب يا زميلي إذا لم تساير بعدها إيقاع الصعوبة عندما يتحالف مع الوقت! فقد تهاونت واستحليت المرح عندما كان الوقت لصالحك.

قد يبدو لنا أن جدلية الوقت تختلف في تعريفها عند فئة الشباب أكثر، وهذا أمر لا يثير الاستغراب، لكنه يستلزم الوقوف عند هذا الاختلاف؛ فهمه؛ والاستفادة منه أيضاً، فطرح إشكال الإدراك الحسي للوقت، وتقبله، لا يجب أن يقتصر التوافق معه على الالتزامات أو الأهداف، بل يجب أن يحقق انسجاماً ثلاثي الأبعاد مع شخوصنا: البعد الأول يقتضي الإدراك اللحظي والآني؛ حيث لا ينبغي أن يتسلل إلى وعينا أن ما نقوم به روتين أو آلي، فكل نشاط مهما كانت رتابته إلا أنه ناجم عن تفكير خطي أو دوري، جعلنا نقوم به بشكل يومي. إن هذا الإدراك اللحظي هو ما يولِّد التمكن، ومن هناك نستشعر السهولة. البعد الأول إذاً يمكن إيجازه كالتالي: "كل ما تقوم به بشكل يومي يصبح أكثر سهولة بالنسبة لك، فتمكن منه أكثر من خلال إدراكك الحسي اللحظي به".

البعد الثاني يرفع من درجة ترشيد النفس قليلاً، ومحاولة تدريبها على التكيُّف مع عامل الزمن بشكل تقابلي، يوحي بنوع من المواجهة والعناد، السبيل لذلك هو الابتعاد عن جميع ظروف التساهل أو التأجيل: فالوقت دائماً ما يقدم لنا على طبق التأخر ما لذَّ وطاب من مغريات المرح والاستمتاع، فتستقبل واجباتك والتزاماتك على نحو من التعالي، فمثال كل من طالب الطب والاقتصاد ليس المقصود به أن يعبر عن مدى جدية الأول أكثر من الثاني، بل المراد أن نفهم المنهج الذي يسلكه الإنسان -ونحاول تفاديه- كلما اغترَّ بسهولة، أو قرَّر تأجيل عمل يبدو له في ظاهره أنه في متناوله، حتماً ليس بالأمر السهل أن نُقرِّر السهر في التدقيق في برهان فيزيائي، دراسة رواية، أو نقضي الساعات في فهم نظرية رياضية ارتمت أمام أنظارنا خلال قيامنا ببحث في علوم الاقتصاد، فتتداخل المفاهيم ويرتفع مستوى الصعوبة، ونحن نعلم أن زملاءنا في مكان آخر يستمتعون بأوقاتهم في مشاهدة فيلم، السهر خارجاً، أو فقط ينامون… لكنه حتماً قرار يرفع درجة التحمل وضبط النفس، ويأتي بثماره على المدى البعيد. يمكننا بذلك تلخيص البعد الثاني والترديد بصوت حازم: "لا تفرح بما هو قادم، فالساعة وما فيها لك…"

يحمل البعد الأخير لنا قصصَ النجاح والتفوق: لم أسمع يوماً، ولم تَنقُل لي تجاربُ الآخرين من الماضي أو الحاضر، أن واحداً ممن بلغوا درجات التميز تعامل مع الوقت كمحدد لجدوله اليومي أو الأسبوعي، ولا عاش سنواته الجامعية على أنها مجرد إقامة إجبارية، تخوّل له بعد ذلك الحصول على تأشيرة الدخول إلى عمل قارٍّ.

إنها مراحل تتطلب جدية مرنة، وسباقاً مع الوقت يستدعي يقظة دائمة، إنه ليس عدّاً عكسياً كما يعتبر البعض، ولا منبهاً ينتهي بدَقَّتِه مشوار العمل، بل إنه رهان مستمر بين الإنسان والوقت. البعد الثالث يكمن في تجاوزنا للوقت، ووضع قواعد جديدة لهذا السباق. يبلغنا البعد الثالث إذاً: "أن الأمر دائماً يتعلق بالرائد في وضع قواعد اللعبة".

لقد كان صادقاً، لم يبقَ في قواعد اللعبة التي وضعها الزمن سوى سنة، إنها تتردد في مسامعي "سنة وتتخرجين…"، لكن ما وضعته من قوانين لهذا السباق لم ينته بعد، ولن ينتهي بمرور سنة أو عشر… إنها تتردد من جديد: "إن الأمر دائماً يتعلق بلعبة… لعبة الوقت".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد