كنت يوماً مع أَحَدِ رِفَاقِ الْعَمَلِ في سيارته..
فقال: هل تَسْمَعُ خُطَب الشيخ فلان؟
فقلتُ: ﻻ ما سَمِعْتُ له.
فقال: كيف يا رجل؟! إنه.. وإنه.. وإنه…
فقلتُ: إني ﻻ أعرفه.
فقال: سَأُسْمِعُكَ اﻵن خُطْبَة له، وشَغَّلَ مُسَجِّلَ السيارة وبدأتُ أَسْتَمِعُ للشيخ.
فَوَجَدْتُ الشيخَ إذا مَرَّ بآية بَكَى، وإذا مَرَّ بحديث بَكَى، وإذا وَعَظَ بَكَى، ووجدتُ حَوْلَهُ نَحِيباً وعَوِيلاً بَارِزَ الصوت.
فقلتُ له: ﻻ يُعْجبني الداعية الذي يَبكي أثناء وَعْظِه وخُطَبِه.
فقال: كيف ذلك؟! إنه يؤثر تأثيراً شديداً في الناس أﻻ تَسْمَع؟!
فقلتُ: إني يُعْجِبُني الدَّاعِية يُمَزِّقُ نِياطَ قُلُوب الناس، ويأخذ بِأَلْبَابِهِمْ وقُلُوبِهم بِقُوة الْمَعَانِي والفكر، وبِحُسْنِ اﻷداء والعرض، حتى وإنْ لم يبكوا، فهذا عندي خَيرٌ من هذا الدَّاعِيَة البَكَّاء، والذي يَبْكِي مَنْ حَوْلِه الناسُ.
فاعترض أخونا وقال: إنَّ بكاءه له أثر شديد، إني أبكي معه بكاء مُرّاً.
فقلت: إن هذا الذي أسمعه ما أراه خيراً للناس، إن هذا الذي يفعله الشيخ كمثل جُرْعَةٍ مُخَدِّرَةٍ، تذهب ويَزُولُ أَثَرُها سريعاً.
أما المعاني القوية مع اﻷسلوبِ النَّافِذِ اﻷَخَّاذِ واﻷلفاظ الْقَارِعَة للقلوب فإنَّ أَثَرَها يَطُولُ، بل لعله يَدُوم ويَتَرَسَّخ؛ ﻷنّ مِن طبيعة المعاني واﻷفكار أَنْ تَتَرَسَّخ، وتَدُومُ، وتبقى فَاعِلَةً مُؤَثِّرَةً، أما البكاء والتأثر النفسي به فما أَسْرَعَ زَوَاله!
وقد قرأنا كتب الحديث، فهل سمعتَ رواية واحدة تقول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى وهو يخطب في الناس؟!
والجواب: لا يوجد.
وكذلك الصحابة رضي الله عنهم، لم يَرِد عن أحد منهم أنه بكى وهو يخطب في الناس. ولا عن أحد من التابعين رضي الله عنهم، ولا عن أيٍّ من العلماء والفقهاء الْمُعْتَبرين لم أقف على رواية تقول بأن أحدهم بكى وهو يخطب في الناس.
وقد روى مسلم في صحيحه: "وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ".
والحديث واضح، إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أبكى الناس بِوَعْظِه، وهكذا يكون الخطيب البارع، يؤثر في الناس بِسِعَة عِلمه، وانتظام فكره، وبلاغة قوله، وصِدْقه.
إن الخطيب الماهر الصادق هو الذي تَنْسَالُ كلماته على القلوب فَتَتَسَرَّبُ إلى أعماقها، فتتفاعل القلوب مع الكلمات، فَتَطْمَعُ القلوب والنفوس إنْ رَغَّبَتْ الكلمات، وتخشى وتَوْجَلُ إنْ هي رَهَّبَتْ. وليس شرطاً أن يبكي الناس، فإنك تستطيع أن تلمح تفاعل الناس مع الخطيب في وجوههم وعيونهم.
ومثل هذا الخطيب يبقى أثره ممتداً في الناس، فالفكرة السديدة المؤثرة التي تبلغ القلب لا تنفك عنه ولا تزول.
أما ما نراه اليوم من بعض الدعاة الجدد الذين يعتمدون في خطبهم البكاء والعويل طريقاً للتأثير في الناس، فيبكون ويبكي الناس مِن حولهم، فهؤلاء لا يتعدى أثرهم أبواب المساجد التي يخطبون الناس فيها، فما أفاد الناس إلا بوخزة في النفوس، يذهب أثرها ويزول سريعاً فور انتهاء مجلس العويل والبكاء الذي ينصبه أَيٌّ من هؤلاء الدعاة الجدد.
فلم يَرَضَ أخونا بِكلامِي ولم يُعْجِبْهُ رَأْيي.
فَزِدْتُه قائلاً: وكذلك البكاء في الصلاة خشوعاً أو تأثراً بالتلاوة الأولى ألا يكون أمام الناس، والأصل فيه أنه إنما هو عارض، وناتج عن سبب من المعاني المقروءة، فإن كان في خَلْوَة فهو مَكْرَمَةٌ ومَحْمَدَة، فإن عَرَضَ البكاء للمصلي وهو بين الناس أو في صلاة الجماعة فإن من الأولى والأفضل له أن يدافع نفسه، ويجتهد ألا يغلبه البكاء.
أما إن كان إماماً، فإن الإمام حَرِيٌّ به أن يكون ثابت الجأش، فلا يظهر له بكاء أثناء إمامته للصلاة، فعليه أن يضبط نفسه، ويدافع بكاءه، فلا يغلبه البكاء أثناء إمامته للصلاة، فلم يثبت عن رسول الله ولا عن أحد من الخلفاء الراشدين، ولا عن أحد من الصحابة، ولا عن أحد من التابعين، أو تابعيهم، أو أئمة المذاهب الأربعة، أو العلماء لم يثبت عن أحد منهم أنه بكى أثناء إمامته للصلاة.
وإن ما نراه من بعض الأئمة الذين يعمدون إلى تلوين أصواتهم وتنغيمها، وترديد الآيات أو بعضها مرات، بهدف التأثير في السامعين، واجتذاب المزيد من الناس، فإن ذلك من البدع التي يخشى على صلاة صاحبها، وبالتالي على المأمومين خلفه، خاصة أنه قد يبتغي بفعله هذا الشهرة والتسمع، فإن فعل فقد وقع تحت طائلة حديث رسول الله: "مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ الله به، ومَنْ رَاءَى رَاءَى اللهُ به".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.