أن الإسلام السياسي في مرحلة إعادة إنتاج الإسلام بطريقة قد تبدو علمانية، لكنها قد تساهم في وضع الأسس والمعايير اللازمة لإعادة إنتاج الذات بما يتلاءم مع كينونة الفكر الذي يتناسب مع تلك المرحلة.
فلم تعد محاولات تصدير الثورات أو الشعارات ذات جدوى في السياق التواصلي الذي يُمكن أن يجسده فرقاء العمل السياسي والاجتماعي والإعلامي.
فالحديث عن أزمة بنيوية في الخطاب الديني هو الذي أوجد ذلك البون الشاسع بين الفكر الإسلامي والرصيد، أو الإرث الحضاري الذي قد يُعبر عنها أو يُمثلها عبر نماذج إرشادية أو تأطيرية.
لكنها قد تسمح بنفاذ امتدادات السياسات المعنية بمراحل تطور الفكر الإسلامي والعربي بإلقاء الضوء على مدى قابلية توظيف النقاشات حول مرجعيات ذلك الفكر لما من شأنه صياغة رؤى متجددة حول واقع ذلك الفكر وإشكالياته، وقوة الجذب التي قد يتعامل معها.
وبناء على ذلك، فإن قوة الجذب الحضارية تشير إلى قدرة هذه الحضارة أو تلك على اجتذاب أعضاء حضارات أخرى عبر "فعالياتها المثيرة ثقافياً"؛ لأنهم يقرون حدود أسر الممارسة، ولأن المعرفة والخطاب اللذين يستندون إليهما ليسا بالضرورة متناغمين مع التركيبات المشيّئة لجملة الانتماءات، والتقسيمات والحدود المؤسسية.
وهكذا، تتطلب رؤية الحضارات بوصفها أسراً ممارسة الانتباه إلى كل منابع الممارسات الحضارية جراء ممارستها من جهة أخرى. الأمر الذي نجم عنه محاولة إعادة بناء الهوية الإسلامية والعربية وعلاقتها الجدلية مع الفكر العلماني، لا سيما في هذه المرحلة التي يشهدها العالم العربي بعد موجة ثورات الربيع العربي ومآلاتها، واتضحت فيه أهمية إيجاد نظام اجتماعي وسياسي يستند على ما يُمكن لنا تسميته إطلاق دورة جديدة من تطوير الممارسة الخلاقة لعوامل الجذب أو التنافر التي أدت لقيام تلك الثورات في وسائل قد لا تنتهج العنف فقط، ولكن عبر الأدوات الثقافية (*) التي ساهمت في تحديد سمات المراكز السياسية والثقافية والمجتمعية وآليات قبول خطوات التجديد في صيرورة الأنظمة في فضاءات أيديولوجية تتسم بنوع من التوجه نحو المستقبل.
فهل يُمكن للفكر السياسي – الإسلامي أو العربي – الذي يُمكن التعاطي معه في سياقات هذه المرحلة أن يستفيد من الممارسة المعيارية المصقولة والمجددة في أوروبا، كونها الآن دائبة على العمل لتغيير طبيعة اللعبة الحضارية البينية، ربما للمرة الأولى في التاريخ، قد تكون "أوروبا السلطة المعيارية" -كيان سياسي عابر للحدود القومية بوصفها أسرة ممارسة أمنية في قلبه- عاكفة على إعادة اختراع ذاتها بوصفها أسرة ممارسة أمنية هي عاكفة، تحديداً، على التمدد نحو الخارج، وعلى السعي إلى اجتذاب لاعبين سياسيين آخرين، وعلى الاضطلاع بدور قيادة عملية تغير قواعد اللعبة السياسية الدولية بممارسات قائمة على التغيير السلمي.
ما يجعل "أوروبا السلطة المعيارية" مختلفة عن الممارسات "التحضيرية" السابقة هو أنها تعبر عن سيرورة التحضير، بما فيها ضبط النفس بوصفه عنصراً حاسماً في القاعدة المعرفية وأدوات الأداء الكفؤة لأسرة ممارسة أوروبا وكيانها السياسي العابر للحدود القومية، وذلك عبر سيرورة التحضير طويلة الأمد بتطوير معايير ضبط النفس اجتماعية متفوقة على نزعات اللجوء إلى استخدام العنف.
وهكذا، نجد أن آلية ضبط النفس الاجتماعية تطورت نتيجة سلسلة من حالات تبادل التبعية الاجتماعية الديناميكية – بات الناس أكثر "عرضة لقدر أكبر من الإلزام بالاهتمام الآخرين".
وفي هذه الأثناء، بات ضبط النفس معتمداً على قيود خارجية، غير أنه صار أيضاً مستبطناً، أصبح بالتالي أكثر آلية وكلي الشمول على الصعيدين العام والخاص.
قليلة هي، ربما، الأفكار التقدمية المتمتعة بالقوة التي تتمتع بها عملية مأسسة علاقات دولية منطوية على وعود يعول عليها بتغيير سلمي، ورؤية ضبط النفس كسيرورة تحضيرية إن هي، إذن، إلا رؤية وثيقة الارتباط بالأسرة الأمنية و"القدرة على" (Power to)، فوفق ما يقوله إريك رنغمار تبقى "السلطة على" (Power Over) نوعاً من السلطة السياسية التي توظفها سياسية القوة لحكم العالم الحديث، في حين أن "القدرة على" تعني تغيير الآخرين وجعلهم على صورتها عبر الممارسة.
ومن هذا المنطلق، إذا ما كانت الحضارات قادرة على توظيف "القدرة على" من استخدام العنف ومن دون استدراج رد عنيف هي مسألة ذات شأن.
من المهم بالمثل، إذن، طرح سؤال ما إذا كانت أسر الممارسة المعتمدة على ضبط النفس قابلة، في ظل شروط معينة، لأن تصبح "القوة المركزية" التي تتأسس الأسر الأمنية حولها. ولأن الناس يفعلون ما يفعلونه، جزئياً، بسبب أسر الممارسات التي يشكلونها ويحافظون عليها، فإن تمدد أسر الممارسة عبر الحدود الوظيفية والجغرافية يمكّن خلفيتها المعرفية من تشكيل حصة مطردة التزايد من هويات الناس وأفعالهم المعتمدة.
يبقى، إذن، نشر الممارسات المؤسسة انعكاسياً عن طريق القدرة الأدائية لأسر الممارسة وقدرة شرعنة الكيانات السياسية في تغيير العالم على صورتها، هو الذي يمكن أن يشير إلى كيفية قيام الحضارات بتمثيل نفسها في العالم السياسي.
ومن شأن طبيعة الممارسات التي تنتشر وتتمأسس أن تساهم في تحديد ما إذا كانت المجابهات الحضارية سلمية، وصولاً إلى ما إذا كانت الأسر الأمنية قابلة للتوسع عبر الحدود الحضارية.
وعلى ضوء ما سبق، فإن علينا أن ننظر إلى سلطة أوروبا المعيارية بوصفها سيرورة جارية "يوتوبيا"، أو "مختبراً" يتم فيه توليد بدائل سياسة و"حُكّم" فيما وراء الدول، وبذلك يتعين على أوروبا أن تتغلب على تاريخها؛ وبكلمات أخرى، "ليس الاتحاد الأوروبي" مفهوم بهذه الطريقة "أي شيء مقابل" السلطة على -بل ولا حتى على وحداته القاعدية الخاصة- لكنه، رغم ذلك، متمتع بقدر لا يُستهان به من "القدرة على".
ومع أن الاتحاد الأوروبي كان مجدد ممارسات مرموقاً، فإن الكثير مما تفعله أوروبا الآن، لا سيما على صعيد سياستها الخارجية، تقليدي، مثل تقديم المساعدات التنموية والمعونات الإنسانية، وتوظيف منابر الحوار والوساطة السياسية، ونشر بعثات حفظ السلام.
بيد أن التحديد أو الابتكار يقوم على مبادرته إلى "استنفار الأدوات اللازمة للتأثير في معايير الاندماج المحددة للشروط الداخلية التي يتعين عليها، بدورها، أن تكون أكثر مواتاة للاستقرار في المنطقة".
ــــــــــــــــــ
(*) الأدوات الثقافية:
تبدو دائماً، أو تُصدَّر لنا، الأفلام الوثائقيّة باعتبارها الأفلام اللاأيديولوجيّة. فهي أفلام، يتواطأ المشاهِد والمُشاهَد على ذلك، توثّق ليس إلّا. وبما أنّها توثّق فهي تقول الحقيقة. إنّ سيرورة إنتاج فيلم وثائقيّ، عند المشتغلين فيه، هي سيرورة الإنصات للأرشيف، وللوثيقة التاريخيّة. فهو فيلم لا يقول شيئاً، بقدر ما هو كاميرا تصوّر ما حدث تحديداً في لحظة معيّنة. الموضوعيّة إذاً ليست فقط هي المرادفة له، بل هي البداية والهدف.
بيد أنّ الأرشيف ليس أرشيفاً، إنّه مؤرشَف من قبل آخرين، كما إنّه مؤرشَف من قبل القارئ. فما من أرشيف بريء، ناهيك عن أنّ سبل التأويل نفسها يحكمها أرشيف معاصر يوجّهنا نحو الماضي. إنّ الماضي ليس ساحة منتهية، بل هي ملعب الحاضر. لا صراع متعلّق بالحاضر، بل بالأرشيف تحديداً، بما أنتجنا كذوات تاريخيّة، أي بالتاريخ.
وليس إحضار أصوات متعددة داخل فيلم وثائقيّ دليلاً وبيّنة على حياد المؤلف. ليس هناك روايتان، فالرواية واحدة، فقط هو ينظر إليها من منظور واحد بدافع التعدّد وادعاء الموضوعيّة. لا يمكن أن تكون ليبراليّاً مثلاً وستنتج رؤية لا ليبراليّة عن التجربة السوفييتيّة. كما لا يمكن أن تكون من الماركسيين الباليين، العرب تحديداً، لتؤرخ لظهور الإسلامويّة إلّا أنّها ظهرت لما غبنا نحن.
المضحك هو أنّ الجميع يهرب من الأيديولوجيا والتأدلج، وهذه آفة عصرنا. إنّه عصر نرجسيّة الموضوعيّة والحياد البارد. عصر الحروب الأبرد أبداً، ما من أيديولوجيا ولا أيديولوجيّ. وعندما تنتج فيلماً وثائقياً فأنت تذهب في آخر الليل مستريح البال بأنك قلت الحقيقة: حقيقة ما حصل، ولا دخل لك. لكنّ موقعك الطبقيّ أولاً والفكريّ ثانياً هما قولبة ما حصل على وجه التحديد. إنّ النافذة -أي الفيلم الوثائقيّ- التي ظننتها هروباً لك من الأيديولوجيا، كانت هي بالتحديد الباب للأيديولوجيا. تأدلجوا إذاً. كونوا على قدر الحرب، أو سمّوا أنفسكم ما بعد أيديولوجيين، وحينها سيكون كلّ شيء حقيقة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.