(1)
شاطئ البحر مايو 2017
تحاول بناء شيء ذي شكل مفهوم من الرمال بين يديها، تهتم بحواف مخلوقها الصغير، تأتي ببعض الماء في دلوها الأصفر وترشه في حب، ثم تلتفت إلى أمها سائلة "شُفتي يا ماما؟، عملت بيت، هو مين اللي بيبني البيوت؟" – المهندس. تدرس الأمر لثلاث ثوانٍ ثم تهتف: "أنا هبقى مهندسة عشان أبني بيوت، واحد كبير لينا وتانيين كتير لمحمد اللي بينام عند رصيف النادي". تتوقف السيدة عن برد أظافرها "هندسة إيه يا بنت، البنات ما تدخلش هندسة. انتي تدخلي صيدلة أو أسنان وتبقي دكتورة عشان طب طويلة كمان". تضحك العجوز الساهمة "يا ستي لا تطلع مهندسة بترول كمان" فتسأل الحالمة: "هي إيه هندسة البترول دي يا نانا؟". – دول مهندسين بيشتغلوا في الصحراء ولا البحور الكبيرة يحفروا الأرض عشان يطلعوا جاز وبنزين. تلتمع المقل الصغيرة وتكمل.. يعني بيسافروا كل البحار يا نانا؟ وممكن يعملوا بيوت جديدة ويقعد معاهم محمد؟.. لا تنتظر الإجابة وتطير على الرمال..
"الله دي هتبقى adventure حلوة أوي ومختلفة خالص".
قبل عشرين عاماً في فناء مدرسة..
في تحفّظ؛ كانت الصغيرة تعرض على أمها مسطرة تسبح بها بعض السمكات الورقية وبعض شهادات التقدير. "بنت حضرتك اتكرمت النهارده أربع مرات يا أستاذة على تفوقها وعلى نشاطها الرياضي ومسابقة الشعر والمسرح، ربنا يخليهالك وتشوفيها أشطر دكتورة في مصر".
تندفع لتقاطع: "أنا عايزة أبقى مذيعة وأكتب قصص، مش بحب أبقى دكتورة"، تضحك السيدتان بنظرة المتعجل ألا يتم إفساد لحظته المهمة، "يا حبيبتي انتي الأولى ع المدرسة يعني دكتورة. والمذيعة دي بتبقى في مصر بس، يعني تسيبي البيت، وتعيشي لوحدك، مينفعش طبعاً".
تقاطع اللمضة ثانية: "الأولى يعني هبقى شاطرة في الحاجة اللي بحبها، أنا عايزة أبقى زي نجيب محفوظ"، لكنها تنتبه -الآن- وتزن الكلمات المتلعثمة "إيه ده في القاهرة، يعني هسافر، وأجرب كل حاجة لوحدي، وأعرف ناس كتير".
لا تسمع اعتراض الأم وهي تتأمل في العلم -على يسار الفناء- "دي هتبقي مغامرة عظيمة جداً، وهكتب عنها كتاب".
(2)
"شيء من بعيد ناداني وأول ما ناداني جرالي ما جرالي وده مش بإيدي يابا ناداني من يميني ولسه بيناديني بيقولي حصليني على بلد العجايب".
مرت تسع سنوات على تلك الليلة الحارة من أغسطس/آب، التي قرر فيها أبوها أن يأخذها إلى "المنيا" في نهار رمضان، مستقلين سيارة قديمة من خط الصعيد، وملأ الطريق -الذي استغرق يوماً وليلة- بالاستغفار والحوقلة من القيظ الشديد، وانعدام الفروق بين الألسن والتربية، كما لم يتوقف عن تكرار تأكيده على كونه أباً ديمقراطياً، ولم يستخدم ضدها سلاح المنع والترهيب، وسيتركها تعود لعقلها حتى تفهم أن "الشحططة دي مالهاش ثمن".
تسع سنوات كاملات منذ الساعة التاسعة، التي انتصرت فيها للمغامرة و"الحاجات التي بتحبها". ترتدي إسدالاً أسود اللون، تتعثر فيه وفي الحقيبة الضخمة التي لا تحسن، حتى جرجرتها. تتصور أن الغربة التي ترحل لها ملونة ويمتلئ قلبها بأحلام بحجم المجرة كلها. وفي كل مرة أخافها عواء ذئب في الصحراء الممتدة طوال الطريق، تعودت أن تتخيل أنها تسجل فيلماً وثائقياً عن سجن تزمامارت المغرب، وعليها أن تتحلى بالشجاعة.
اقتضت المغامرة أن تتحول إلى ضيفة في المنزل، لا يطول مكثها إلا في الإجازات والمناسبات. ضيفة تُسْأَلْ عن موعد سفرها وعودتها، وضيفة حتى على القاطن الجديد لحجرتها، ودولابها الذي سيلم كل أشيائها الخطيرة في رف واحد بالأسفل؛ لأنه "مش معقول هيفضل فاضي". ضيفة حتى على الشوارع التي تحمل -كل إجازة- محالّ جديدة وروائح مختلفة، وعلى الأصدقاء الذين يتسامرون مختتمين حديثهم بالملاحظة: "آه صح، انتي ما كنتيش/ مش هتبقى معانا ساعتها".
اعتادت ألا تفرغ الحقيبة؛ لأنها "ماشية على طول"، وألا تقع في حب مكان أو تضع به أشياءها المفضلة. وقاومت ألا تحصي عدد الأسرّة التي نامت فيها، أو الجيرة التي شاركتها اللقمة والعيشة، وحتى الشوارع المميزة في كل حي ومدينة. ولم يكن سهلاً أن تكتسب لقب "اللي معارفها كتير" ففي كل يوم كان هناك فتاة طيبة ونسخة شريرة، وولاد الحلال المنقذين، ومن اطلعوا على الدموع ساعة الأزمة، وحفنة من ولاد الكلب، وابن بلد "عيب لما يسيب الغريبة لوحدها".
لم يتغير طعم السفر الحلو في فمها، كما لم يكفّ صدرها عن الانقباض بعد حدود "كفر شكر"، ولم تستبدل الذي هو أدنى بكورنيش المنصورة، ولا عرفت -بعد عقد من العمر- كيف تجد في العاصمة صحبة على التأقيت. واتضح أن جدتها كانت على حق "الغايب مالوش نايب".
(3)
"قد كان هذا كله من قبل واجتزنا به لا شيء من هذا جديد ولا مفاجأة هنالك".
مشهد داخلي: في ليلة باردة من ديسمبر/كانون الأول، وقفت على الحوض تغسل بعض ثيابها الشتوية على يدها لأول مرة، دخلت عليها بسمة، ابنة مركز جرجا – سوهاج، وضحكت من المشهد (أربع صنابير مفتوحة وتوضع القطعة في كل واحد ربع ساعة كي تتأكد أنه تخلص من المسحوق)، علمتها الفتاة كيف تشطف الغسيل، وهي تتنمر على ولاد البحاروة، اللي متعودين على الأوتوماتيك.
في العالم الجديد لم تعد ثمة حاجة لتعريف المسؤولية، عليك أن تستيقظ معتمداً على منبهك وحده، أن تتجاوز الإفطار، تعود منهكاً لتعد وجبة ساخنة، في نهاية الأسبوع تشتري حاجياتك وتغسل ثيابك، وتقضي الفراغ بأية وسيلة لتقتل الوقت. وكنت أظن أننا كفتيات لن نستثقل ذلك حتى عرفت أن هناك أمهات لا يتفقن مع أمي في دعوتها السامية بضرورة إتقان الطهي والتنظيف والترتيب والعناية الشخصية وتدبير المصروفات.
خرجت صديقة ذات يوم لتشتري الخضار فطلبت من البائع 2 كيلو شبت، ولك أن تتخيل يا مؤمن ما فعل الرجل. وكانت أخرى قد دأبت على تذكيرنا أنها لم تنظف المنزل يوماً وعلينا ألا نطالبها بأكثر من إلقاء القمامة في مكانها. وذات جمعة اكتشفت أن جارتي تستدعي البواب لينظف الحمام ويكنس الغرفة كل أسبوع. ثم اتضح أن الطهو يعني قائمة من (فول، بيض، تونة، بطاطس، إندومي) لدى الغالبية. ولكثرتهن؛ تناقلت المخضرمات قاعدة غير مكتوبة بألا يشاركن السكن حديثة عهد بالغربة ولا "الدلوعة".
لكن المعجزات تحدث بالفعل؛ فكما تعلمت غسيل البطانيات يدوياً لما اضطرني برد الشتاء، عرفت "المدللة" كيف يكفيها مصروفها حتى نهاية الشهر. وارتقت الأخرى إلى مرحلة دعوتنا إلى غداء من المحاشي. وبينما خاضت "الخجلى" شجارها الأول -وهي تتصبب عرقاً- حتى انتزعت حقها في نهاية الأمر، تراجعت "القلقة" عن أخبار أبيها برحلتها إلى قسم الشرطة، وهي تمارس عادتها في حكي أدق التفاصيل.
وحافظت الأمهات على طقسهن بالتذكير "إن الزمن بيربي والغربة جيش البنات".
(4)
"وحدي لكن ونسان وماشي كده ببتعد معرفش أو بقترب"
في اللواج "حافلة سفر صغيرة" كنت أشعر بالحماسة الشديدة، وأنا أقطع الجبال الممتدة من "تونس" العاصمة إلى مدينة "سوسة" الساحلية. تطلب الأمر أن أستقل سيارة أجرة وأنا أتابع الطريق على خرائط جوجل، وأشتري تذكرة، وأن أفعل كل هذا بتونسية سليمة -تعلمتها خصيصاً- تحسباً ألا يستغل أحدهم كوني سائحة تسافر بمفردها، ويكلفني المزيد من المال أو يهدد أمني. حكيت لخلود -بفخر- في المساء كيف أنني قلت للسائق "ننجمو نقعدوا في البلاصة هاذيكا"، و"خويا ما زال برشا" و"خويا أنا راك متفدلك"، فضحكت وقالت: "انتي تهني على حالك يا مي" ثم فسرت: "ما يتخافش عليكي انتي جدعة يعني".
بمرور السنوات وأنت في الغربة "فرداً" تتحول الحياة إلى أبسط صورها: مجموعة من التجارب والنضج اللازم في النفوس على أثرها، "مغامرة" كما قالت الصغيرة قبل عشرين عاماً في الفناء. أصبحت المخاوف والتحديات القديمة كأداء "شلبي سوليفان" يفزع الصغار فقط ويتغذى على صراخهم. وكلما ثقلت كفة التجربة؛ تناقصت الأشياء الحاملة لجين "الإبهار". وفي القلب منك تتعرف على قيمة حاجاتك الحقيقية، وتميز أسباب سعادتك وسأمك، وينكتم صوت الشعارات والمظاهر.
تتشابه المغامرات، ولا يبقى منها إلا السنتيمترات التي كبرتها روحك خلالها، فتبدأ في تقييم القادم منها بميزان قلبك لا بالورقة والقلم. "أيفوز باللذات الذي اغترب في بلاد الله أكثر وأبعد؟ أيموت بالحسرات من ارتضى بالمتاح القريب وكفر بالغربة؟".
كانت السيارة تناضل للخروج من التكدس ما قبل كوبري الجلاء وشارع التحرير بالدقي، وتحضرنا نسمة هواء باردة رغم الاختناق. واستمر بنا النقاش حول مكاسب السفر وأضراره وضرورته في المأزق الاقتصادي الحالي، وهل المنحة والدراسة في الخارج هي القفزة الواسعة والفرصة التي نستميت عليها؟
إلى أن نظرت من النافذة قليلاً وعدلت من حجابها وقالت: "أنا اتغربت طول عمري، وما جربتش طعم العائلة والأهل واللمّة وصحاب الطفولة، وعانيت لما رجعنا مصر إني أكوّن أصحاب.. مش عايزة ولادي يعيشوا نفس الحرمان والوحدة دي، الغربة كربة بجد".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.