لإسهاماته في علم الاقتصاد السلوكي.. ذهبت جائزة نوبل للاقتصاد هذا العام إلى ريتشارد ثالر الأميركي وكان هذا بمثابة إعادة لتسليط أضواء لم تخفت بعد على كتابه الأشهر والأهم كتاب النغزة الذي اشترك في تأليفه مع كأس بي سانستين.
كتاب النغزة كان بمثابة البوتقة لأفكار ورؤية ثالر حول الاقتصاد السلوكي الذي يعني كيفية تحكم الاقتصاد في سلوكيات الإنسان بعكس السلوك الاقتصادي المعني بتحكم السلوك الإنساني في الاقتصاد.
ورغم أن كتاباً مثل كتاب النغزة شيق جداً فإن محاولة عرضه وتحليله تفوق الإمكانية ولا تتسع لها المقدرة في هذا الحيز والمجال، إلا أنني سأتوقف عند واحد من أهم المصطلحات الواردة في الكتاب، وهو مصطلح الوصاية التحررية.
كتاب النغزة يتحدث عن أن الإنسان العادي يتعرض إلى ما يسمى النغزة من جهة ما، وذلك بغرض التنبيه أو التوجيه والسيطرة، ويكون التنبيه تعاملاً مع وعي الإنسان، وذلك بعرض عدة اختيارات أمامه ثم يقوم هو مستخدماً وعيه الكامل لاختيار الأوفق والأكثر ملاءمة ونفعاً له من وجهة نظره والتوجيه يكون بالتعامل مع الكامن في وعي الإنسان ولا يشعر به، وإنما يتصرف بناءً على توجيهه بمثل رغبة الإنسان بعدم الخسارة التي تفوق رغبته بالمكسب فتجده دون أن يشعر في جميع اختياراته يميل بقوة نحو الاختيار الذي يضمن عدم خسارته، بغض النظر عن احتمالية المكسب، وهذا ما بالفعل ما تستغله جهة ما لتوجيه هذا الإنسان، بل والسيطرة التامة عليه.
وتتعدد مسميات هذه الجهة الناغزة من الأب للطفل إلى الشركة للمستهلك إلى جهة العمل للعامل، حتى في مجتمعاتنا الشرقية نجدها تتمدد ليكون الزوج للزوجة والأخ الأكبر للأسرة.
هذا الفعل بتلوين الاختيارات وتحديد المسارات هو ما نستطيع أن نطلق عليه لفظ الوصاية، تلك التي تمارس في جميع المجالات، وعلى كل الأوجه بداية من الأب للطفل، والشركة للمستهلك، والبنك للعميل، وصولاً إلى الدولة للمواطن، وفي كل هذه النواحي تمارس الوصاية بعدة أشكال تحت ادعاء النفع وتجنب الضرر.
عودة لأجواء رائعة جورج أورويل المعنونة 1984 بل يعد تطبيقاً حرفياً لأحداث الرواية.
ولأن الوصاية مرفوضة من حيث المبدأ؛ لتعارضها مع حرية الإنسان المفروضة في جميع مفردات حياته، فتم استحداث شكل جديد منها يسمى الوصاية التحررية، وهي الوصاية التي تنشأ من معرفة هدف الإنسان واختياره ثم تضع أمامه وسائل تحقيقه، أي أن الإنسان إن اختار التوقف عن التدخين مثلاً ودون إجبار، فيتم وضع كل الخيارات أمامه في هذا الإطار لمساعدته وتحفيزه لاستكمال ما أراد.
هذا ما سمّاه ثالر الوصاية التحررية.
هذا النوع من الوصاية قد يبدو مبرراً، بل وله بعد أخلاقي في مجمله؛ لأنه يعود على الإنسان بالنفع بناء على اختياره ورغبته، وهذا ما عدد له المؤيدون وأكثر له المناصرون فما المانع – من وجهة نظرهم – من وجود ما يعزز من اختيار الإنسان بمحض إرادته، بل ومن الواجب المساعدة في الأمر العام النافع.
بينما يقف المعارضون على الجهة الأخرى، ويقولون ما الداعي لوجود وصاية من أي نوع؟ ومن الذي أعطى لأي جهة سلطوية أو حتى أبوية أو حتى غيرها حقاً قد يساء استخدامه سابقاً ولا يوجد ضمان لغير هذا؟
وينتقلون لبعد أعمق في صيحتهم إلا وهو ولما نسلب امرأً حق التجريب والخطأ وهو أحد الحقوق الإنسانية المتعارف عليها.
هل هناك مَن يعرف مصلحتك أكثر منك شخصياً؟ من يكون وبأي حق بلغ هذا؟ وما حدوده؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.