في اللقاء الشهير الذي جمع بين أعضاء مجلس قيادة الثورة وأعضاء مكتب الإرشاد في منزل المستشار حسن الهضيبي (المرشد العام الأسبق لجماعة الإخوان المسلمين)، وذلك في منيل الروضة عام 1953م، سئل جمال عبد الناصر: (إنت عايز إيه يا جمال؟)، فأجاب: (أنا عايز أدوس علي زرار البلد تمشي.. أدوس على زرار البلد تقف..)!!
وكذلك يحاول نظام الانقلاب في مصر منذ 4 سنوات أن يصل إلى هذا الحلم، وإن شئت فقل إلى هذا السراب؛ فالزمن غير كثيراً من الأمور، حتى أصبحت بعد 25 يناير بعيدة المنال، بل مستحيلة، ولكن الانقلاب يحلم أحلام اليقظة الآن، ويرى في تأسيسه لأسطورة "العقرب" نموذجاً مصغراً من مصر المستقبل!!.. كيف؟!
إن تجفيف الموارد والتحكم في الإمدادات التي تصل إلى الشعب هي دأب كل مستبد حتى يحكم السيطرة على الشعب، وهذه السياسة هي للإنهاك والإلهاء معاً، ويكفيك أن ترى ما يعانيه الناس الآن من شح القوت ودوامة البحث عن لقمة العيش مع الضنك الشديد، فإن حصّل طعامه وشرابه وجده فاسداً، فلا عجب إذن أن تكون الصورة المثلى لذلك في "العقرب"؛ حيث التحكم في حجم ونوعية اللقمة التي ستصل إلى جوف المعتقل، وبالكاد تكفيه للبقاء على قيد الحياة، وعندما يتم في بعض الفترات خلط حبات القمح مع حبات الرمل! في عجين الخبز (يسمى الجراية)، فليس ذلك إلا اختباراً لنا في محبة تراب هذا الوطن!
إن المراقبة والتتبع الأمني ووأد الحريات، ناهيك عن التعذيب في أقسام الشرطة وأماكن الاحتجاز في أمن الدولة، فضلاً عن الاعتقالات الجماعية والاختفاء القسري لهي الخطوات الأولى التي تسبق مرحلة "عدّ وإحصاء الأنفاس في الصدور"، ولذلك وضعت أحدث كاميرات المراقبة لتسجل بالصوت والصورة على مدار 24 ساعة كل سكنة وحركة لرجال العقرب، إلى الحد الذي جعل أحد اللواءات يقول لزميل لي في زنزانة مجاورة: "إنت لو اتنفست 30 نفس على النظارة، هاعرف في الحال إنك اتنفست 30 نفس"!، والنظارة هي الفتحة الوحيدة في الزنزانة وتقع في الباب الفولاذي المغلق على مدار 23 ساعة يومياً.
عندما تترك مياه المجاري أسفل الزنازين حتى تصل إلى ارتفاع 1.5 متر! حاملة معها الفئران وهوام الأرض وأسراباً متتابعة من الآف الأعداد من الناموس، لا يجد الإنسان مفراً من تغطية وجهه وجسده بالبطانية، الصوف الميري حتى في شهري 7 و8 حتى يذوق النوم ولو لنصف ساعة، ولكن الشعب المصري لم يحرم من هذا البلاء أيضاً، فها هي المصائب والنوائب تتابع في البحر والنهر والجو، وتصلنا أخبارها في وجوه السجانين قبل ألسنتهم، وهذا جزء من الحنان والرفق الذي وعد به الشعب يوم 3 يوليو/تموز.
إن النظام في محاولاته لتحقيق حلمه في العقرب، يسعى جاهداً إلى "عقربة مصر"، ولكنه يستيقظ الآن على مشاهد كابوس حقيقي.. كابوس يسمع فيه كلمات رجال العقرب ليل نهار، يصرخون في وجهه: "خائن".. "قاتل".. "فاشل".. "فاشل" لا سيما وهو يرى وجوه أطفال المعتقلين تضحك ساخرة من فشله وعجزه عن تركيع آبائهم أو حتى ترويضهم سياسياً.
هؤلاء الأطفال الذين طال انتظارهم بالسنوات على بوابة العقرب حتى يروا الآباء الذين يعلمونهم معاني الإباء، فيزدادون تعلقاً بهم ويهجرون حياة الدعة والراحة إلى حياة الميادين لصناعة رجال المستقبل، محطمين خطط الانقلاب في تقطيع الأرحام وإحداث الشقاق بين الأب وابنه؛ كيف لا، وقد وضعت الحوائط الزجاجية السميكة على كابينات الزيارة حتى تقف عازلاً منيعاً يحول دون التقاء الأكف أو تعانق الأبدان، ولكني ما زلت أذكر ابتسامة على وجهيّ "أسلم" )8.5 سنة) و"ساجد" )7 سنوات) ولديّ وذلك في آخر زيارة لي سمح لهما بالدخول فيها منذ عام تقريباً في 5 أكتوبر 2016 ولمدة 10 دقائق فقط!
إن النظام الذي أنفق الكثير من وقته في متابعة نموذج العقرب حتى يحقق النتائج المرجوة ويقوم بتعميمه على مصر كلها فيمدّ الوصلات والكابلات من قلب العقرب إلى أطراف مصر وأرجائها وتتم التغذية بنفس برنامج التعذيب والتنكيل، وينتظر اليوم الذي يملك فيه ذلك "الزرار العجيب" والذي بضغطة واحدة يُسيّر فيها الأمور كما يريد، مردداً قول سلفه: {ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}، إذا به يؤسس أسطورة للفشل.. الفشل الذريع في العقرب وفي كل مكان وجهاز ومؤسسة في مصر.
إن من عادة الأساطير أن تنتهي بنهاية غير متوقعة، وبشكل مفاجئ للجميع على الرغم من ظن بعض أهل الوهم والغفلة أن الأساطير وجدت لتبقى.. نعم تبقى في الخيالات لا في واقع الناس، وانظر إلى ما دُوِّن في تقارير المخابرات الأميركية في أواخر 1987م لتجد توقعاتهم بشأن نظام الشاه في إيران (محمد رضا بهلوي وأسرته) رغم مظاهر الفساد والفشل، وأنه لا يوجد ما يهدد النظام فعلياً قبل عشر سنوات على الأقل، ثم كانت المفاجأة التي صدمت الجميع عندما قامت الثورة بعد شهرين اثنين فقد في أوائل 1979 ونجحت في اقتلاع أركان النظام بالكامل طارحة كل هذه التوهمات بثبات النظام جانباً.
كثيراً ما يردد النظام: (إدوني سنتين وهاتشوفوا هنبقى إيه)، ثم (إدوني سنة وهاتشوفوا)!، ثم (إدوني 6 شهور كمان)!.. والنتيجة بعد الخيانة وسفك الدماء هي فشلxفشل، ذكرني هذا بأيام هتلر الأخيرة وتلاحق الهزائم عليه مع الفشل المروع بعد سنوات من الغطرسة والكبر، فلما سحب مسدسه من الدرج الأول في مكتبه الخاص وأطلق الرصاص على نفسه، دخلوا عليه وحملوه، ثم لما فتحوا الدرج الثاني من مكتبه وجدوا علبة مليئة بمكعبات لعب الأطفال!! كان هتلر يلهو بها في السر حتى يهرب من أسطورة الفشل.
في الذكر الحكيم: {إن الله لا يصلح عمل المفسدين).
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.