ما زال الأكراد يبحثون عن تفسير انسحاب قوات البيشمركة الشهيرة ببساطة، أمام تقدم القوات الحكومية العراقية وسيطرتها على كركوك التي يصفونها بقدس الأكراد.
وفيما تبادل الحزبان الكرديان الاتهامات المريعة بما فيها الخيانة، قالت صحيفة الإندبندنت البريطانية أن حقيقة ما جرى وراء المشهد الذي قد يكون الأكثر فداحة في التاريخ الكردي، ليس تماماً ما يعلنه قادة الإقليم؛ وأن هناك صفقة سرية اتفق عليها قادة الحزبيين الكرديين الكبيرين للانسحاب ولكن بطء وصول الأوامر لمقاتلي البشمركة تسبب في الكارثة التي حلت بهم.
قد يكون الأكراد قد فقدوا على مدار اليومين الماضيين بالفعل 40% من المناطق التي كانت خاضعة تحت سيطرتهم في السابق، بانسحابهم من مناطق كانت محلَّ نزاعٍ طويل مع بغداد. إذ يتراجع مقاتلو البيشمركة الأكراد من رُقعة أرضٍ واسعة شماليِّ العراق، تمتد من سوريا غرباً حتى إيران شرقاً.
ومن الواضح أنَّ كلا الحزبين الكرديين الرئيسيين في العراق، وهُم الحزب الديمقراطي الكردستاني (KDP)، والاتحاد الوطني الكردستاني (PUK)، قد اتّفقا خلال اجتماعٍ عُقِد يوم الأحد، 15 أكتوبر/تشرين الأول 2017، أنَّه ما من خيارٍ أمامهما سوى الانسحاب من كركوك ومناطق أخرى محلَّ نزاع، حسب الإندبندنت.
إذ علم الطرفان أنَّهما أضعف من أن يقاتلا قوات الأمن والجيش العراقيين، وأنَّه ليس لديهما حلفاءٌ يُمكن اللجوء إليهم لطلب المساعدة. والآن يُحمِّل الزعماء الأكراد بعضهم البعض مسؤولية الهزيمة، التي سيذكرها التاريخ بصفتها إحدى أفدح الكوارث في تاريخ الأكراد.
تغيير للجغرافيا السياسية
من شأن هذا التطوُّر أن يغيِّر من الجغرافيا السياسية لمنطقة شمالي العراق، على نحوٍ سيكون في مجمله على حساب الأكراد.
إذ انسحبت وحدات الجيش الكردي من منطقة سنجار القريبة من الحدود السورية، حيث موطن الأيزيديين الذين تعرَّضوا للقتل والاستعباد على يدّ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، عندما تقدَّم عبر الأراضي العراقية في أغسطس/آب عام 2014.
والآن استولت على المنطقة قوةٌ شبه عسكرية من الأيزيديين، وإن كان ولاؤها لبغداد.
وعلى الجانب المقابل من الخط الفاصل بين الأكراد وغير الأكراد، انسحب البيشمركة من مُدن خانقين، وجلولاء، ومندلي القريبة من الحدود الإيرانية شمال شرقي بغداد. وتلك كلها مناطق بذلت الأحزاب الكردية جهوداً جمَّة لتأسيس حُكمها فيها على مدار الأعوام الأخيرة، والآن على الأرجح هم خسروها للأبد.
النفط
وهجرت قوات البيشمركة آخر حقليّ نفط كانا خاضعين لسيطرتها قرب مدينة كركوك، وبذلك تكون القوات قد تنازلت عن جميع مكاسب الأرض التي حقّقها الأكراد منذ الغزو الأميركي وسقوط صدّام حسين عام 2003. وكانت حيازة حقول النفط تُعَدُّ عاملاً جوهرياً في حال نية أكراد العراق الحصول على استقلالهم الاقتصادي يوماً ما.
ومن جهةٍ أخرى، انتشرت الاحتفالات في بغداد، بما يُرَى على أنَّه ثاني نصرٍ عظيم يحرزه العراق ورئيس وزرائه حيدر العبادي هذا العام 2017.
كان أوّلهما الاستيلاء على الموصل بعد حصارٍ استمرَّ تسعة أشهرٍ، في يوليو/تموز 2017.
وثانيهما الآن هزيمة الأكراد التي جاءت سهلةً على نحوٍ غير متوقَّع عقب استفتاء الاستقلال الذي أجراه الأكراد، يوم 25 سبتمبر/أيلول 2017، والذي تسبَّب في أضرارٍ جسيمة للأكراد حتى الآن.
هل تفرض بغداد سلطتها على الإقليم؟
وقال أحد المُعلِّقين الأكراد، الذي تحدَّث وطلب عدم نشر اسمه: "ما أخشاه الآن هو نشوة النصر في بغداد، إذ تدور أحاديثُ حول فرض سُلطة الحكومة المركزية ببغداد في كُل أنحاء العراق".
وقد يعني هذا أن تمارس بغداد ضغوطاً سياسية وعسكرية ثقيلة على الأقاليم الكردية الثلاثة، التي تُشكِّل حكومة إقليم كردستان، والتي تبدو بدورها الآن عُرضةً للهجوم.
من جانبه دعا الرئيس العراقي الكردي فؤاد معصوم للحوار بين الحكومة المركزية والزعماء الأكراد، لحل الأزمة التي أشعلها الاستفتاء.
وتحدَّث العبادي عن الاستفتاء، مشيراً إلى أنَّه "انتهى وصار من الماضي"، لكنَّه دعا أيضاً للحوار "تحت مظلّة الدستور"، ما سيؤدّي لاستبعاد حل الاستقلال الكردي. وبهذا فلا شكَّ أنَّ كفَّة بغداد رجَّحت على نحوٍ جذري في ميزان القوى بالعراق، على حساب العاصمة الكردية أربيل.
خبايا الصفقة السرية
وسعى مسعود بارزاني وحزبه الديمقراطي الكردستاني يوم الإثنين، 16 أكتوبر/تشرين الأول 2017، للإلقاء باللوم على قوات البيشمركة التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني باعتبارها مسؤولةً عن التقدّم السهل لقوات الأمن العراقية، والذي لم يلقَ صدّاً من جانبهم، متّهماً إيَّاها بخيانة الأكراد من خلال عقد صفقة منفصلة مع بغداد.
لكنَّ مصادر كردية أخبرت صحيفة الإندبندنت البريطانية أنَّ كلاً من الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، قد اتّفقا أنَّ قوّاتهما أضعف من أن تُقاتل من أجل التمسّك بكركوك، مع أنَّ تلك الأوامر لم تصل قادة البيشمركة في الوقت المناسب. وقالت مصادر من مستشفى يقع بمدينة السليمانية الكردية، إنَّها قد استقبلت جثث 25 مقاتلاً وعالجت إصابات 44 آخرين.
وفي المجمل، فإنَّ خسائر الطرفين كانت طفيفة، وهو دليلٌ على أنَّه قد جرى التوصّل لاتفاقٍ على الانسحاب قبل تقدُّم الحكومة العراقية.
وانسحبت قوات البيشمركة التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني التابعة للبارزاني من مدينة سنجار يوم الإثنين، 16 أكتوبر/تشرين الأول، وكذلك من مناطق كانت خاضعة لسيطرتها في محافظة كركوك، في انسحابٍ خُطِّطَ له مسبقاً بوضوح.
ويُلقِي بارزاني بدوره اللومَ على "قراراتٍ أحادية اتّخذها ساسةٌ أكراد"، وهو اتهامٌ يُفترَض أنَّه لا يشمل بارزاني نفسه، رغم أنَّ قراره غير الحكيم بإجراء الاستفتاء هوَ ما وضع الأكراد في مواجهةٍ مع بغداد، كان موقفهم فيها هوَ الأضعف.
معارضة الجميع إلا السعودية وإسرائيل
ولاقى الاستفتاء معارضةً من قبل جميع القوى الدولية والإقليمية، ما عدا إسرائيل والسعودية، حسب الإندبندنت، وكلتا الدولتين ليستا في وضعٍ يجعلهما قادرتين على مساعدة الأكراد عملياً. كذلك قرَّر بارزاني أن يتحدى العبادي، بعدما أحرزت قوّات الأخير نصراً هائلاً في الموصل، وكان من المستبعد أن يتراجع.
كما عارضت الولايات المتحدة أيضاً إجراء الاستفتاء، وظلَّت بعيدةً عن الأزمة بأكملها. وبدا الرئيس الأميركي ترامب غير عابئ بالأمر، عندما قال: "لا يُعجبنا كونهم يتقاتلون. كانت علاقة الولايات المتحدة بالأكراد جيدة على مدار سنواتٍ عديدة كما تعلمون. وكنَّا أيضاً في صفِّ العراق".
هذا الرجل يتحمَّل المسؤولية الأكبر
ستبقى مسؤولية هذه الكارثة محلَّ جدلٍ بين الأكراد العراقيين لعشرات السنوات في المستقبل، لكنَّها، عملياً، كانت نتيجة ثقة بارزاني المبالغة فيما لديه من قدرات، والانقسامات بين الأحزاب الكردية التي عنت بدورها بطلان الخيار العسكري ضد بغداد.
وبفضل الاستفتاء، لم يفشل الأكراد العراقيون في الحصول على استقلالهم فحسب، بل إنَّهم سيجدون الآن أنَّ الحُكم الذاتي، الذي سلَّموا بوجوده مسبقاً أصبح مُهدَّداً فيما تُحكِم بغداد سيطرتها على الأقاليم الكردية.
وكان المتحدث باسم قوات البيشمركة الكردية -قد قال بحسب هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي- إن القوات الحكومية العراقية استعانت بعدد من القوات الإيرانية وميليشيات الحشد الشعبي، من أجل السيطرة على مدينة كركوك.
وسيرى الكثيرُ من الأكراد أنَّ أيدي إيران والحرس الثوري الإسلامي تلاعبت بحكومة بغداد والأحزاب الكردية؛ حتى يصلوا إلى الوضع الحالي.
إذ إنَّ تقوية حكومة بغداد وإضعاف بارزاني، وهو شخصيةٌ مقرّبة من الولايات المتحدة، هوَ في مصلحة إيران، لكن لا حاجة هنا لنظريات المؤامرة لتفسير ما حدث. جوهر الأمر هو أنَّ بارزاني ورَّط نفسه في مواجهةٍ لم يكن بمقدوره الفوز فيها.