عالم أصبح الصخب فيه هو سيد الموقف، أحداثه تتسارع وكأنها تتسابق مع طائرة نفاثة، عالمٌ أصرّ على المضي دون أن يلتفت وراءه، دون أن يعبأ بمن تحت قدميه، فالعام يمر وراءه العام، وبدون أن نشعر نجد أنه مر علينا عام، وبرغم سرعة مروره نجد أنفسنا كبرنا معه مائة عام، واليوم الواحد في كل عام يحدث داخل أنفسنا تشوهات لا تصدق، كثير منا لا يلاحظها يومياً؛ لأننا لم نعد نملك وقتنا؛ لكي نقيّم أنفسنا ونربيها ونحاسبها، ولكن ما أدركه الكثير منا هو ذلك التشوّه العميق الذي يحدث بعد فترة.
ويأتى بعدها التساؤل: مَن أنا؟ وكيف أصبحت هذا الشخص الذي لم أكن أتخيل أن أصبحه في يوم من الأيام؟
وكل ذلك ندركه ونعاني منه جميعاً، لكن السؤال الذي لا بد أن نسأله لأنفسنا: لماذا نُصرّ على أن نحاكي أعوامنا في صفاتها التي نعاني منها؟ لماذا لم نعد نأبه بأحد، لا نبالي بأوجاع أحد؟ وما دام ما يؤذي غيري بعيداً عني لا يهم، هكذا أصبح شعارنا.
بل والأدهى من ذلك أننا أصبحنا نلوم على من يشعر بأوجاع الآخرين ونتهمه بالسذاجة، أصبح الحب الصادق والإخاء كالسراب، نظن أننا حصلنا عليهما ثم لا نلبث أن نجد أنهما كانا لسبب ما، أصبحنا نحن وأعوامنا خناجر في أنفسنا وفي نفوس من حولنا، ولا يوجد فينا بريء إلا من رحم ربي، وكلٌ منا يظن أنه بمنأى عن الاكتئاب والاحتياج والأوجاع النفسية، وعندما يصيبنا ما أصاب غيرنا نعود ونلوم على هذا الزمان.
والحقيقة التي لا بد أن يعيها الجميع ويجعلها في قناعاته، أن كلاً منا يصبّ في بوتقة الآخر، ونحن نصبّ في بوتقة أيامنا، وأن أفعالنا هي الفعل وما تفعله بنا الأيام والأعوام هو فقط ردة الفعل وليس العكس كما يظن الكثير منا.
وأن ما فينا من تشوهات نفسية لم تُحدثه الأيام والأعوام، ولكن من يمرون بنا من أشخاص في هذه الأيام والأعوام، ولا أنكر أبداً أن النفس النقية تتناسب طردياً مع التشوهات النفسية.
ولكن مَن السبب في تلك التشوهات؟
في الحقيقة نحن، نعم نحن، لا تلوموا على مَن حولكم، نحن السبب من البداية لأننا وثقنا فيمن لا يستحق الثقة، أغدقنا من مشاعرنا بدون حساب للمستقبل مع من لا يستحق تلك المشاعر، إلى أن نقص مخزونها داخلنا، وعندما فهمنا ذلك لم ننظر للأمور على أنها دروس ولا بد أن نأخذ منها العِبَر ولا نذيق غيرنا مما تجرعنا، ولكننا ذهبنا في طريق الانتقام، وتنمّرنا وأظهرنا مخالبنا وفقدنا حلاوة الحب الصادق ونقاء النفس ومتعة العطاء بحجة (محدش يستاهل).
وبعد رحلة شاقة من الصراع النفسي المرير الذي سنمر به جميعاً في هذا الزمان، منا من تطول رحلته معه ومنا مَن تقصر، لا نلبث جميعا أن ندرك أن الخاسر الوحيد في كل تلك الصراعات هو أنفسنا، وأنفسنا فقط؛ لأننا في النهاية أصبحنا نبحث عن أنفسنا التي كانت أو بمفهوم الكثير ذلك الزمن الجميل الذي كنا نعيشه، وفي الحقيقة ليس الزمان الذي كان جميلاً، ولكن النفوس التي تعتبر أن البشر بشر وليسوا أرقاماً كانت كثيرة، فكان بهم الزمان جميلاً.
والآن يا صديقي، لا بد أن نأخذ القرار الصائب لتستريح أنفسنا، ولنعلم أننا لن نقابل إلا أنفسنا، فربّ العزة وعد بذلك (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان)، فلنحسن على كل حال.
أعلم أن ما أخبرك به ليس بالسهولة التي يكتب بها، ولكن الممارسة على الفعل تجعله عادة لا يمكن الاستغناء عنها، فلنمارس الإحسان إلى أن يصبح من عاداتنا، حتى وإن قابلنا بعض الأوجاع فنحن مَن ينتصر في النهاية، وإن لم نفُز إلا بأنفسنا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.