لم يجد الملك محمد السادس بُدّاً من استعمال لغة شديدة اللهجة، حين توجه بخطابه صوب برلمانيي المغرب ووزرائه وكبار مسؤوليه، متوعداً إياهم بالمحاسبة عن كل تقصير، ومتعهداً بـ"معالجة الأوضاع وتصحيح الأخطاء وتقويم الاختلالات"، حتى لو اقتضى الأمر حدوث "زلزال سياسي"، وفق تعبير الجالس على العرش.
هذا "الزلزال السياسي والتوعد بالمحاسبة"، الذي تحدث عنه الملك خلال افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية العاشرة بمقر البرلمان وسط العاصمة الرباط، عشية الجمعة 13 أكتوبر/تشرين الأول، أحدث رجَّة عنيفة في أوساط المسؤولين ممن يتحسسون كراسيهم ويخافون ضياعها، خاصة أن الملك ينتظر تقريراً مفصلاً موكَلاً إنجازُه إلى المجلس الأعلى للحسابات عن تأخر مشاريع "الحسيمة منارة المتوسط".
وإن كان ملك المغرب قد ابتعد عن الكلام التهديدي الذي تضمنه خطاب العرش 29 يوليو/تموز 2017، فإن خطابه الأخير تميز بلغة توجيهية اغْتَرفت الكثير من قاموس المقتضيات الدستورية، وفق محمد الغالي أستاذ العلوم السياسية والقانون الدستوري بجامعة القاضي عياض في مراكش.
وقال الغالي ضمن حديثه لـ"عربي بوست"، إن كلام الملك كان دستورياً، ربط المسؤولية بالمحاسبة، وقدّم إشارات باعتباره رئيساً للدولة، لافتاً إلى أنه لم يتحدث بلغة الوصاية، ولا لغة الأوامر؛ بل استحضر الأدوار المنوط بها المجلس الأعلى للحسابات، باعتباره مؤسسة دستورية مستقلة تقوم بالمصاحبة والمواكبة ومراقبة المال العام.
"منارة المتوسط" في مهب الريح
الملك وبعد اطّلاعه على خلاصات تقرير أولي متعلق بتنفيذ برنامج التنمية الجهوي "الحسيمة منارة المتوسط""، أخَذَ علماً بأن الأمر لا يتعلق بعمليات غش أو اختلاس؛ بل بتأخر وعدم تنفيذ العديد من مشاريع البرنامج، وفق ما أكده بلاغ للديوان الملكي، معطياً أوامره للمجلس الأعلى للحسابات ورئيسه الأول، إدريس جطو، بالتحقيق في "الاختلالات" التي تسببت في تأخر هذه المشاريع.
تأخُّر هذا المشروع التنموي الضخم، الذي وُقِّعت الاتفاقيات الخاصة به أكتوبر/تشرين الأول 2015 بمدينة تطوان (شمال المغرب)، أمام الملك، عاماً قبل اندلاع أحداث الحسيمة عقب وفاة محسن فكري- كان سبباً وراء قرار جديد للملك أفصح عنه خلال خطابه الأخير، حيث كلف المجلس الأعلى للحسابات العمل كذلك على تقييم المشاريع في مختلف المجالات بجميع أنحاء وجهات المغرب.
ويقول الدكتور الغالي، إن الملك ورغم لهجته الحادة والقوية، فإن تكليفه "مجلس جطو" ينم عن تريث واحترام كبير لدولة القانون وتماهٍ مع ثوابت الدستور المغربي، وباعتبار أن المجلس مؤسسة مستقلة عن الأحزاب السياسية وتتمتع باستقلالية بعيداً عن وزارتي الداخلية والمالية.
وتوقّع أستاذ القانون الدستوري أن تعود أسباب عرقلة هذه المشاريع التنموية إلى مشاكل في حيازة العقار الذي ستقام عليه بعض المشاريع، زيادة على تعدد المسؤولين واحترام التراتبية المؤدي إلى تبديد الوقت، فضلاً عن مشاكل في التمويل المالي.
إعفاءات وإقالات تنتظر مسؤولي المغرب
وإن كان المغاربة عموماً وسكان منطقة الريف على الخصوص، ينتظرون نتائج تقرير المجلس الأعلى للحسابات، الذي سيتم تقديمه لعاهل البلاد خلال الأيام القليلة المقبلة، للاطلاع على مكامن الخلل- فإن مسؤولين كباراً من الذين ما زالوا يمارسون مهامهم، إلى جانب آخرين سابقين، يضعون أياديهم على قلوبهم؛ مخافة أن يحمّلهم التحقيق تبعات هذا التأخير.
المحلل السياسي محمد زين الدين، اعتبر أن أحداث الحسيمة وما تلاها، زيادة على ما سيسفر عنه تقرير المجلس الأعلى للحسابات، عقب ثبوت تقصير في إنجاز المشاريع، يأخذ طابعاً سياسياً أكثر منه جنائياً، موضحاً أن نتائج التقرير ستسفر عن تبعات سياسية مع جزاءات تجاه مسؤولين ووزراء سابقين وحاليين.
وأشار أستاذ العلوم السياسية بجامعة الحسن الثاني في المحمدية، ضمن تصريح لـ"عربي بوست"، إلى إمكانية إعفاء مسؤولين كبار من وزراء ومنتخبين وموظفي الإدارة الترابية، وغير مستبعد إعادة هيكلة المشهد الحزبي والتخلص من مختلف التراكمات السياسوية لفاعلين سياسيين مغاربة.
انتخابات مبكرة
"الزلزال السياسي" الذي تحدث عنه الملك خلال خطابه، والذي لوح خلاله بإجراءات سياسية لتصحيح الأوضاع وحلحلة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، يؤكده عبد العزيز أفتاتي، القيادي بحزب العدالة والتنمية، بالقول لـ"عربي بوست"، إن "المغرب بحاجة إلى رجّة سياسية".
ويرى القيادي بالحزب المغربي الإسلامي أن البلاد لو كانت تمتلك معارضة قوية تقوم بأدوارها لقامت بتقديم ملتمَس رقابة، حتى تسير الأمور نحو إجراء انتخابات سابقة لأوانها، معتبراً أن الحل يكمن في هذه الخطوة مرفوقة بنقاش سياسي وإعلامي ومجتمعي كبير وصريح، بما يعجل بما سماها "عملية إنقاذ سياسي".
ويرسم المتحدث مسارين لهذا الزلزال، يتجلى أولهما عبر تبنّي الحكومة المغربية، برئاسة سعد الدين العثماني، هذا النقاش السياسي بما يجدد الثقة بالنخب السياسية والحكومة، أو تقديم استقالته والذهاب نحو انتخابات سابقة لأوانها، ودون هذين الخطوتين ستبقى "الحياة السياسية والديمقراطية مريضة وفي مهب الريح"، وفق قوله.
من جانبه، اعتبر محمد بودن رئيس مركز "أطلس لتحليل المؤشرات السياسية والمؤسساتية"، أن عبارة "الزلزال السياسي" المثيرة للجدل، تبقى خياراً معقداً لا يمكن تصور سقفه أو أفقه، لافتاً إلى أنها موجهة للأحزاب؛ من أجل القطع مع تصرفات بائدة، وكذلك موجهة للحكومة والبرلمان، غير مستبعد أن يتجه الملك لحل البرلمان وإعادة الانتخابات، وإحداث تعديلات داخل الحكومة.
بودن قال لـ "عربي بوست"، إن الملك سيلجأ إلى زحزحة الأرض السياسية، التي لم تعد قادرة على إنتاج بذور منتجة، وإن التعديل الحكومي في حال وقع فسيشمل وزراء، مستبعداً أن يشمل أحزاباً، "فمن غير الوارد على المدى القريب، أن يشارك حزب الاستقلال، على سبيل المثال، داخل الائتلاف الحكومي العريض أصلاً، المكون من أحزاب ستة ووزراء تكنوقراط"، يؤكد المتحدث.
وأوضح رئيس مركز أطلس أن حزب الاستقلال إن كان سيشارك في الائتلاف الحكومي فلا بد لحزب آخر من أن يغادر الحكومة.
خطاب الملك ترجمة لمطالب حراك الريف؟
نقطة أخرى سجلها الملاحظون للخطابين الملكيَّين الأخيرين في مناسبتي عيد العرش وافتتاح السنة التشريعية، فهما منسجمان مع المطالب التي دعا إليها نشطاء حراك الريف وناضلوا من أجلها قبل قرابة سنة، حيث أكد ضرورة تحديث النموذج التنموي المغربي، مطالباً بتنفيذ جيد للمشاريع، مع انخراط جيد وإيجابي للشباب، حيث انبرى نشطاء في التذكير على أن مجموعة من النقاط التي جاءت بالخطاب هي من بنات أفكار وجوهر مطالب معتقلين على خلفية الحراك على رأسهم ناصر الزفزافي، وطالبوا بأن تكون اول خطوة عملية من طرف القصر هي إطلاق سراح المعتقلين.
المدوِّنة المغربية مايسة سلامة الناجي، أكدت لـ"عربي بوست"، أن كل مطلب من مطالب الشباب مترجم في فقرة من فقرات الخطاب الملكي، مؤكدة أن هذه القسوة التي باتت تعتري الخطابات الملكية الأخيرة، يعود الفضل فيها لحراك الريف والشباب الذين خرجوا يطالبون بالتنمية، وبادروا إلى الكلام وتحديد المطالب.
وأعربت سلامة الناجي عن أملها أن يتحقق هذا "الزلزال السياسي على أرض الواقع"، منتقدةً ما غدت عليه الساحة السياسية المغربية من "ميوعة أفقدت أواصر الثقة ما بين الشعب والأحزاب"، مشيرة إلى أن "غياب الوسائط ذات المصداقية هو الذي دفع شباب الحراك، وعلى رأسهم الزفزافي، إلى المطالبة بلقاء الملك شخصياً".