تصحيح: تم حذف الإشارة إلى مسؤولية شركة ماكينزي للاستشارات عن إعداد رؤية 2030 حيث أكدت الشركة عدم مشاركتها في ذلك، وأن التقرير الذي أعدته عن "المملكة العربية السعودية ما بعد النفط: تحول نحو الاستثمار والإنتاجية" كان مستقلا وسابقا لإعلان الرؤية بنحو شهر.
بعد أن ملأ الدنيا ضجيجاً عن طرح شركة أرامكو للنفط في اكتتاب عام وصفه بأنه قد يكون أكبر اكتتاب في التاريخ، يبدو أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان قد يقرِّر فجأة إلغاء هذه الفكرة واستبدالها بأخرى أكثر تحفظاً.
ولكن ما الذي جعل بن سلمان يفكر في التخلي عن إجراء الطرح العام الأوَّلي لحصةٍ صغيرة من أسهم أرامكو، عبر إدراجها رسمياً في السوق العالمي، كما ذكرت صحيفة فيننشيال تايمز البريطانية، الجمعة 14 أكتوبر/تشرين الأول 2017.
أسباب تخليه عن الحلم
صحيفة فايننشيال تايمز رأت في تقرير لاحق أن هذا التفكير الجديد ليس مجرد اعترافٍ بسيط بأنَّ بيع حصةٍ بالشركة لمستثمر رئيسي قد يكون وسيلة أبسط وأسرع لجمع الأموال. إلا أنَّه في الواقع التفكير في مثل هذا القرار أكثر تعقيداً وجدية بكثير.
رؤية 2030
قُدِّمَت فكرة الطرح العام الأولي لأسهم شركة أرامكو السعودية باعتبارها عنصراً رئيسياً على ما يبدو في خطط ولي العهد محمد بن سلمان صاحب النفوذ المطلق لإحداث تحولٍ بالاقتصاد السعودي، وفقاً لخططٍ تحت عنوان "رؤية 2030".
وصُممت فكرة بيع أسهم الشركة لجمع قدر كبير من المال يمكن استخدامه لتحويل الاقتصاد السعودي، ولتقليل الاعتماد على عائدات النفط في المستقبل. وكانت الخطة، مثلها مثل العديد من التقارير الاستشارية، مُتقنة بصورةٍ مغرية، لكنَّها لم تكن ذات مصداقية على الإطلاق كمشروعٍ يمكن تحقيقه.
"السعودية لا تحب الشفافيةً"
أسباب التخلي عن فكرة الطرح العام الأولي عديدة. فهذا الطرح العام لأسهم الشركة يتطلب عرضاً مفصلاً يتسم بالشفافية لأصول الشركة، بما في ذلك تقييمٍ مستقل للتحقق من مزاعم السعودية بامتلاك نحو 260 مليار برميل من الاحتياطيات النفطية.
عملية اتخاذ القرار كذلك في الشركة، التي ستصبح شركة عامة، ستصبح مفتوحةً بصورةٍ أكبر. فكل المساهمين، حتى لو كانوا يملكون ما لا يزيد عن 5% من أسهم الشركة، سيصبح من حقهم معرفة القرارات التي يجري اتخاذها والأسباب وراءها. ومثل ذلك النوع من الشفافية لا يتماشى مع نظام الحوكمة السائد في السعودية.
المبالغة في السعر
يتمثل السبب الثاني للتخلي عن قرار البيع في أنَّ سعر البيع الممكن تحقيقه سيهبط كثيراً للغاية عن التطلعات التي وضعها ولي العهد، الذي أعلن أنَّه يعتقد أنَّ الشركة تبلغ قيمتها أكثر من 2 تريليون دولار. وخروج تقييم السوق المفتوحة للشركة بنصف هذه القيمة أو أقل سيُعد إهانةً لا يمكن تحملها. وإذا بيعت حصةٌ ضئيلة من الشركة بشكلٍ سري فإنَّ السعر الفعلي سيبقى غير معروف.
تغيير التحالفات
ولكنَّ السبب الثالث للعدول عن القرار أكثر أهمية، ويتعلق أكثر بالسياسة من الاقتصاد، حسب الصحيفة.
فمثل العديد من الدول التي كانت تعتمد في الماضي على دور الولايات المتحدة الأميركية كقوة عظمى، بدأ السعوديون يدركون أنَّ الولايات المتحدة ببساطة لا يمكن الاعتماد عليها باعتبارها المُدافِع المطلق عن الرياض. بدأ هذا الإدراك في ظل عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، الذي أوضح أنَّ الولايات المتحدة لا تريد أي مشاركةٍ أخرى في حروبٍ خارجية. ففي ليبيا، بعد سقوط العقيد معمر القذافي، قالت الولايات المتحدة إنَّها لن تقوم سوى بـ"القيادة من الخلف".
وتفاقم هذا الشعور في ظل عهد الرئيس الحالي دونالد ترامب، بإدراك السعوديين أنَّ عملية اتخاذ القرار في الولايات المتحدة ليست منظمة وغير جديرة بالثقة. فحتى أي احتضانٍ دافئ للنظام السعودي من قبل نظيره الأميركي يمكن أن يتحول إلى أمرٍ لا معنى له.
وليس لدى النظام السعودي القدرة على الصمود بمفرده، كما يتضح من خلال الحرب في اليمن. فالنظام في الرياض يحتاج إلى حلفاء جوهريين إذا أراد أن يصمد خلال فترة التغيير الجذرية التي تؤثر على المنطقة بأسرها.
السند الجديد
وكما لوحظ قبل بضعة أسابيع، فعلى الأرجح ستكون الصين هي المشتري في حالة بيع حصة صغيرة من الشركة في طرحٍ خاص. وهذا أمرٌ منطقي للغاية في ضوء نمط التجارة السائد بين البلدين، فالصين مستوردٌ كبير ومتنام للنفط الخام من السعودية.
ولكن يفوق ذلك التبرير التجاري حقيقة أنَّ بكين حليفٌ أقوى ويمكن الاعتماد عليه أكثر من أي حليفٍ آخر، فهي قادرة على استخدام انتشارها الاقتصادي ونفوذها السياسي للحفاظ على الوضع القائم في المنطقة. وعصى القوة العالمية يجري تمريرها، حتى لو كان متلقيها لا يزال غير مستعد إلى حدٍّ ما للإمساك بها (في إشارة للصين).
وسبق أن توقع الكاتب نك باتلر في مقال بصحيفة فيننشيال تايمز نشره موقع الجزيرة، أن تقوم الصين بدور لإنقاذ الطرح الأولي المزمع لشركة أرامكو السعودية، ومساعدة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الذي "راهن بسمعته" على هذه الصفقة.
وحسب المقال فإن مصلحة الصين، أكبر مستورد للنفط في العالم، أن تؤمن جزءاً كبيراً من احتياجاتها عن طريق شراء حصة في أرامكو، أكبر شركة نفط في العالم، والتي تملك احتياطيات من بين الأقل كلفة في العالم من حيث الاستغلال.
أما مصلحة السعودية فهي حصولها على الأموال التي تحتاجها عن طريق صفقة خاصة مباشرة لا تتعرض فيها للتدقيق الصارم والفحص الفني من قبل جهات مثل هيئة البورصات الأميركية، ولا يشكك أحد -على الأقل في العلن- في التقدير الذي افترضه بن سلمان لقيمة أرامكو.
كما قالت مصادر مطلعة لرويترز، في مارس/آذار 2017، إن الصين تعكف على تشكيل كونسورتيوم، يضم شركات نفط عملاقة وبنوكاً مملوكة للحكومة وصندوق الثروة السيادي للبلاد، سيعمل كمستثمر رئيسي في الطرح الأوَّلي لأرامكو السعودي.
مَن الرابحون والخاسرون في الصفقة الجديدة؟
وترى فيننشيال تايمز أن قرار التخلي عن الطرح العام الأولي سيُخلِّف حال تأكيده رابحين وخاسرين. فستخسر البنوك والمستشارون الآخرون ما وعد بأن يكون صفقة هذا القرن.
وستنجو أرامكو السعودية وستزدهر في عالمٍ يبقى فيه الحصول على إمداداتٍ منخفضة التكلفة من النفط أمراً قيماً للغاية. والصين وأي شخص آخر سيشتري حصةً في عملية الطرح المعلنة سيحصل بلا شك على صفقةٍ بتكلفة مُخفَّضة.
مصير محمد بن سلمان
إلا أنَّ علامة الاستفهام الحقيقية ستبقى حول مصير ولي العهد، الذي تبدو قبضته على السلطة قطعاً غير مستقرة، حسب فيننشيال تايمز.
وستُحدِّد العائلة المالكة السعودية، وهي السلطة المطلقة في مملكةٍ تفتقر إلى الديمقراطية، الخليفة عندما يُتَوفَّى الملك سلمان أو يتنحى عن الحكم.
ولا يزال من غير الواضح ما إن كان مزيج الطموح الشخصي والرغبة في التغيير الاقتصادي الجذري لدى محمد بن سلمان تحظى بدعم أفراد العائلة المالكة. ولن يسهم التخلي عن مشروعٍ غير مدروس بعناية في تحسين سمعته أو فرصه في الحكم.