العائدون من الجحيم.. هم أولئك الموجوعون، المقهورون، النّادمون، الذّين ذاقوا مرارته وتحسّسوا لفح نيرانِه، أولئك المُغرّر بهم أو بأيديهم جنوا على أنفسهم وغيرهم، أولئك الذّين أعجزهم قُبح فعلهم وذنبهم عن الاستناد إلى أحبّتهم والالتجاء إليهم بعد ما كان منهم، فمنهم من تَعزّ عليه نفسه أن يتلقّى صفعة أخرى فتفقده آخر ما تبقّى منه؛ لذلك يفضّلون أن يقبعوا في العذاب على أن يتذلّلوا أو يطلبوا الصّفح ولا يجدونه، ومنهم من قَبل وأرغم نفسه على أن يحاول ويترك كهفه المظلم، وتوسّم في بعضكم الخير ألّا تردّوهُ مكسور الخاطر.
فلا تكونوا أبداً ممّن يُراق على أعتابهم دمع الضعفاء، بل شدّوا على أيديهم وكونوا عوناً لهم حتّى يتخطّوا هذه العثرة وتنقذوهم من جحيمهم.
صديق أخطأ بحقّك يوماً وهجرك وعاد إليك أسفاً نادماً، زوج أساء التقدير وجرحك، رجع نادماً وارتمى بين أحضانك، أب قسا عليك دون قصد ثمّ أتى بعد ذلك يتودّد إليك، أخ زلّ لسانه وتحامل عليك فافتقدك فحنّ إليك، ابن أساء الأدب وتناسى حُسن معاملتك وبعد فترة عاد إلى رشده وجلس يطلب الصّفح تحت قدميك.
أيّاً مَن كانوا، فقط احتضنوهم واخفضوا لهم جناح الرّحمة والرّفق وتجاوزوا عن زلّاتهم، لا تقذفوهم بتُهمهم ولا تنفروا منهم، فهم أرقّ أفئدة وأكثر هشاشة ممّا تظنّون وخير الخطّائين التوّابون.
يكفي أنّهم ذاقوا مرارة الجحيم وعذاب البعد وتعلّموا من أخطائهم، زانوا الأمور جيّداً في غربتهم وعزلتهم فوعوا الدّروس والعبر جرّاء ما اقترفوا، فلا تقسوا عليهم ولا تضغطوا كثيراً على جراحهم، فتقتلوهم.
فلا تقسوا فبعض القسوة ظلم، ولا تقسوا فبعض القسوة جحيم، ولا تقسوا فتقسموا ظهراً أراد أن يستقيم، فلو أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صدّ توبة الصّحابة يوم جاءوا ليسلموا بين يديه بعدما كانوا يوماً في صفوف أعدائه، كيف سيكون الوضع الآن؟
لو أنّه لم يقبل توبتهم ويفتح لهم ذراعيه ويحتضنهم، اسرحوا معي قليلاً بخيالكم هل كان سيجد خالد بن الوليد وكبار الصّحابة الذّين أسلموا متأخّرا حينها؟! ولتبقى (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) و(وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ) من أرقى الآيات التّي تحثّ على التّسامح والصّفح وغضّ الطرف لنيل الفضل والثّواب من الله -عزّ وجلّ- أوّلاً والسموّ بالنّفس إلى مكارم الأخلاق.
هَبْ أنّك تعرضّت لنفس الموقف وجئت نادماً أسفاً مكسوراً تطلب الصّفح، هل كنت سَتتحمّل كمّ الرّفض والتّجريح الذّي سيتوجّه إليك عن خطأ اقترفته يوماً وعاقبك الزّمان عليه بما يكفي؟ لتأتي راجياً العفو والسّماح من أحدهم فتجده يجلدك ثانية دون رحمة!
ربّما لو كنت مكانه لكفرت بكلّ شيء في الحياة، ولعنت نفسك ألف لعنة أنّك أقدمتَ على ذلك!
اعلم أنّ الألم والخيبة يكونان على قدر العشم والقرب، فكلّما كانت الأخطاء والزلّات من المقرّبين كانت أكثر ألماً وعمقاً. فما المانع -وإنْ اختلفنا- أن نترك الأبواب مفتوحة بيننا ولا نوصدها لآخرها فنترك المجال فيها لبعض الضوء يمرّ منها، فربّما تعود المياه يوماً إلى مجاريها.
لا أزعم أنّنا بالمدينة الفاضلة ونصفح لمجرّد أن طلبوا منّا هذا ورجعوا أسفين، ولكن مطلبي ألّا نقفل الباب بينا وبينهم نهائيّاً.
يقول معاوية: "… ولو أنّ بيني وبين النّاس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها".
فلا تكونوا يوماً طوعاً لثأركم وتذبحون من جاءكم مستسلماً نادماً، أو تمتنعون عن مدّ أيديكم لغريق شارف على الموت!
الْتمِسوا الأعذار لبعضكم، فكم من شخص عادى آخر بغير ذنب منه، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ينهى أن يُبَلَّغ عن أصحابه ما يسوءه، قال: "لا يبلّغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئاً، فإنّي أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصّدر".. أبو داود.
فرُبَّ كلمة شرّ تموت مكانها لو تُركت حيث قيلت، ورُبَّ كلمة شرّ سعّرت الحروب؛ لأنّ غِرّاً نقلها ونفخ فيها، فأصبحت شرارة تنتقل بالويلات والخطوب..
وهذا لا يعني أن تكون ممّن يسهل خداعهم لطيبة قلبك ورقّة مشاعرك، فأن تكون سمحاً ليّن الجانب وتتغافل عن الزلّات لا يعني بالضّرورة أن تكون ساذجاً يتلاعب بك المغرضون، وما أكثرهم في هذه الأيّام!
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: "لستُ بالخِبِّ ولا الخِبُّ يخدعُني"، والخِبُّ: الرَّجل الخدَّاع الجُرْبُزُ.
أمّا عن أولئك المتلاعبين الذّين سبّبوا لك خيبات متكرّرة فأولئك هجرهم والبعد عنهم أولى من الصّفح، فقط احمِلْ نفسك وغادرْ لأنّ في مجالستهم وقربهم أذًى، ولا تلوّث فطرتك بالرّكض خلف الثّأر لنفسك، فقد تتيه منك وأنت تعدو خلفهم!
إلى الشّاردين من خيبات الأمل، الفارّين من خيوط وأفخاخ اللّئام والمخادعين، النّاجين من مذابح القَتلة ومعدومي الضّمير، المصدومين والمتيقّظين متأخّراً من أوهام السّحرة، المسيئين تقديراً لمن سلف، معذَّبي النّفوس والضّمائر، المتوجّعين ومشتّتي الفكر والخاطر، لا تركنوا أبداً إلى أحزانكم وأوجاعكم فتفارقوا أحبّتكم طوعاً إلى الأبد، لا تخشوا أبداً أن تبسطوا أيديكم إليهم، لا تتركوا أرواحكم تقبع في الجحيم مخلّدة، اهرعوا إلى أحبّتكم وارتموا في أحضانهم فربّما تجدون النّجاة.
* تم نشر هذه التدوينة في موقع: مدونات الجزيرة
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.