تكلمت في مقالات سابقة عن اكتشاف العلماء طريقة جديدة لتعديل الجينوم البشري الحمض النووي) تسمى الكرسبر، ولكن لم أذكر كيف تعمل هذه الطريقة، ولماذا يخاف بعض العلماء من استخدام هذه الطريقة لتعديل جينوم الأجنة؟ ولماذا استخدمها فعلاً بعض العلماء في بعض الدول لتعديل الأجنة؟ لِم كل هذه الضجة والصيحات المتضاربة ما بين مؤيد ومعارض؟
هل أحلامنا في إنتاج أطفال ذوي قدرات ومهارات خاصة قابلة للتحقيق؟ وهل يمكن أن تستحيل هذه الأحلام إلى كوابيس سوداء في ليلة ظلماء دخل فيها عالَمان المختبر وبدآ تجاربهما دون رقابة؟ هل نحن على أعتاب فرانكنشتين جديد؟
في هذه المقالة، أستعرض الطريقة الأولى التي يستخدمها العلماء في تعديل الجينوم البشري من أجل تغيير الصفات البشرية أو شفاء الأمراض الوراثية.
"يمكننا استخدام هذه الطريقة في تعديل جينوم الأجنة لإزالة بعض الصفات أو الأمراض غير المرغوبة، ويتم هذا عن طريق أخذ بويضة من الأم وحيوانات منوية من الأب وإجراء عملية التخصيب خارجياً، ليتم تكوين زيجوت، والذي سرعان ما يبدأ في الضعف. وهنا يمكننا إجراء التعديل الذي نريده بحقن الأدوات اللازمة داخل الخلايا ليتم التعديل، ويمكننا أن نتأكد من حدوث التعديل ببعض الاختبارات أو بسلسلة الحمض النووي للتعرف على تتابعات النيكليوتيدات ثم نعيد زرع الخلايا في رحم الأم، لتنمو مكوِّنة الطفل الذي أردناه". ( منقول من مقال سابق بتصرف).
لكي تقوم بحذف أو إضافة جين معين في الجينوم، يتوجب عليك تحديد المكان الذي تريده بدقة؛ أولاً لأن شريط الحمض النووي (الجينوم) طويل جداً، ثم تحضر إنزيماً قادراً على عمل التعديل الذي تريده.. وإليك التفصيل:
هناك 4 أدوات رئيسية لازمة لطريقة الكرسبر لتعديل الجينوم، أرجو أن تقرأها بتمعن قبل مواصلة قراءة المقال:
1.قطعة صغيرة من الحمض النووي الريبوزي تتحد مع الجزء المراد تعديله في الحمض النووي وتعمل كعلامة landmark؛ حتى يتسنى للإنزيم كاس القطع في المكان الذي نريده بالتحديد. تسمى هذه القطعة CRISPR Rna، ونقوم بتصنيعها في المختبر.
2. قطعة صغيرة من الحمض النووي الريبوزي لازمة لعمل نظام الكرسبر، ولكنها لا تتطابق مع الجزء المراد تعديله. تسمى هذه القطعة Tracr Rna، ونصنعها أيضاً في المختبر.
3. في الحقيقة، استطاعت جينيفر دودنا دمج الجزيئين السالف ذكرهما في جزيء واحد؛ لتسهيل العمل يسمى Single guided Rna or chimeric Rna. وبهذا الجزيء، يمكننا أن نستغني عن 1 و2 ونستعمل الجزيء 3 فقط للتسهيل.
4. إنزيم قطع له القدرة على قطع الحمض النووي في المكان الذي نريده يسمى كاس (Cas :CRISPR Associated protein ).
للتوضيح أكثر، لنفترض أننا نريد تعديل الحمض النووي لخلية معينة، فسيتوجب علينا القيام
بتصميم الأداة رقم 3 في المعمل؛ لتتكامل وترتبط بالجين الذي نريد تعديله فقط، وندخل الأداة رقم ثلاثة مع الأداة رقم أربعة إلى الخلية، فتقوم الأداة 3 بالارتباط بالمكان الذي نريد تعديله من شريط الحمض النووي وتعمل كعلامة للأداة 4 الذي سيذهب لهذه العلامة ويقوم بالقطع عندها فقط.
(في هذا الرسم التوضيحي، نرى الحمض النووي الذي نريد تعديله باللون الأحمر ونرى الأداة رقم 3 باللون البنفسجي Single guided Rna والتي ارتبطت بمكان معين في الحمض النووي، ونرى الأداة 4 باللون الأخضر Cas Enzyme والذي سوف يرتبط في المكان الذي حددته الأداة 3، ليقوم بعملية قطع الحمض النووي في هذا المكان فقط)
ويبقى السؤال هنا: ما الذي نريد فعله؟ هل نريد خلق طفرة جديدة وإتلاف جين معين أم نريد إصلاح جين تالف؟
لو كنا نريد خلق طفرة وإتلاف جين معين، فسنكتفي بالأدوات التي تم ذكرها سابقاً (الأدتان 3 و4) ويتم إدخالها للخلية بطرق مختلفة والتي ستعمل على كسر الحمض النووي للخلية في مكان معين مثل جين محدد نريد إتلافه، وتقوم الخلية بمحاولة إصلاح الكسر أو القطع الذي أحدثته الأداة رقم أربعة، ويتم ذلك الإصلاح عشوائياً باستخدام أي نيكليوتيدة من الأنواع الأربعة (أدنين- ثايمين- سيتوزين- جوانين)، فتحدث طفرة في الجين قد تفقد الجين وظيفته.
ويمكننا التأكد من أن ذلك الجين قد فقد وظيفته بطرق مختلفة، مثلاً إذا كان هذا الجين كان ينتج بروتيناً معيناً، فسنبحث عن هذا البروتين في الخلايا الناتجة من عملية التعديل الجيني، فإذا لم نجده أو وجدناه قد تغير وفقد وظيفته، فيمكننا أن نتأكد أن عملية التعديل الجيني قد نجحت، وسنختار هذه الخلايا التي نجحت فيها عملية التعديل لإكمال تجاربنا.
تسمى هذه الطريقة NHEJ or Non homologous End Joining.
(في هذا الرسم التوضيحي، نرى أنه قد حدث قطع في شريطَي الحمض النووي عند موضع معين Target Sequence، وسيتم إصلاح هذا القطع بطريقة NHEJ؛ مما سيؤدي إلى إدخال نيكليوتيدة عشوائياً مكان القطع InDel Frameshift، وهذا سيُحدث اضطراباً في تكوين الجين؛ مما يؤدي إلى توقُّف تصنيع البروتين الناتج من الجين بالشكل الصحيح InDel Premature stop codon، وبذلك يفقد الجين وظيفته)
سيتبادر إلى الذهن سؤال منطقي وهو: لِم قد نريد إتلاف جين معين؟ والإجابة هنا ستكون لأغراض بحثية كدراسة مَرض؛ فمثلاً لو كنا نريد دراسة مرض السكري فيمكننا إتلاف جين معين في فئران التجارب؛ مما يؤدي إلى إصابتها بمرض السكري، وبذلك نحن نمتلك الآن نموذجاً لما يحدث بالجسم البشري في أثناء مرض السكري، لكن هذا النموذج عبارة عن فأر تجارب يمكننا تجريب الأدوية الجديدة على الفئران؛ لنرى النتائج الأولية للدواء قبل أن ندخل في مرحلة التجريب على البشر.
هذه الطريقة توفر الكثير من الوقت والجهد والأموال وتقلل المخاطر الناتجة من تجربة أدوية جديدة على البشر.
هذا النموذج من الفئران الناتج عن إتلاف جين معين يمكن أن نسميه Knock out.
هناك استخدام آخر لهذه الطريقة (NHEJ)، فمثلاً في الخلايا الطبيعية السليمة توجد بعض الجينات الخاملة والتي لو تم تنشيطها فإنها تسبب سرطانات (oncogenes) أو أمراضاً أخرى، فإذا تمكنا من إعادتها لحالتها الخاملة السابقة يمكننا أن نعالج المرض الذي حدث نتيجة تنشيطها.
لقد شرحت في هذا المقال الطريقة الأولى التي قد نستخدمها في تعديل الجينوم، فسأكتفي بذلك في هذا المقال ويمكننا أن نستكمل الحديث عن الطريقة الثانية بالمقال القادم. وحتى ذلك الحين، أريدك أن تترك العنان لخيالك، أريدك أن تتنبأ بما يمكن لهذه الطريقة أن تجلبه من منافع أو مهالك للبشرية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.