بينما تسير سيارة بيجو مغطاة بالغبار على طول الطريق، بموازاة القناة القديمة التي كانت تنقل المياه من ينابيع مدينة زغوان -التي تقع في جبال "الظهرية" التونسية- إلى مدينة قرطاج القديمة الواقعة على بُعد نحو 57 كيلومتراً شمالاً. لكنَّ المياه المحيطة بزغوان جفت لفترةٍ طويلة، وإذا لم تُتخَذ أي إجراءات قريباً، قد تجف الكثير من الأراضي المحيطة بها أيضاً.
ولا يقتصر الأمر على زغوان فقط؛ حسب ما ذكرت صحيفة الغارديان البريطانية، إذ توضح سارة التومي، رئيسة ومؤسسة جمعية "أكاسيا للجميع" -وهي مؤسسة اجتماعية تهدف إلى مقاومة التصحُّر وتحوُّل ريف تونس إلى صحراء قاحلة- قائلةً: "95% من الأراضي الصالحة للزراعة في طريقها للتصحُّر. وهناك أقل من 1% من المواد العضوية الخصبة الباقية في التربة، ما يعني أنَّها أرض فقيرة للغاية ويمكن أن تتحول إلى صحراء بسهولة. وبحلول عام 2030، ستصبح الأراضي كلها صحراء إذا لم نفعل شيئاً".
ولا يُعد التصحُّر مقصوراً على تونس، فوفقاً للصندوق الدولي للتنمية الزراعية، لا توجد قارة -باستثناء القارة القطبية الجنوبية "أنتاركتيكا"- مُحصَّنةً من الآثار المجتمعة للزراعة الحديثة المكثَّفة، وتناقص إمدادات المياه العذبة، وارتفاع درجات الحرارة، وهي العوامل التي يمكنها جميعاً أن تحيل التربة الخصبة إلى صحراء. لكنَّ قارتي إفريقيا وآسيا -اللتين تحتويان على 37% و33% من المناطق القاحلة في العالم- تواجهان على وجه الخصوص خطراً شديداً.
وبالنسبة لتونس ما بعد الثورة، والتي تعاني من التوتر الاجتماعي، وارتفاع معدل البطالة، وضعف الاقتصاد، يُعد القطاع الزراعي مهماً للغاية؛ إذ يمثل 14% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد ويُوظِّف 20% من القوة العاملة في البلاد.
ويتَّخذ التصحُّر في تونس أشكالاً مختلفة، بدءاً من الزحف التدريجي للصحراء الكبرى جنوبي البلاد، وصولاً إلى استنزاف الموارد الطبيعية للبلاد من خلال الإفراط في الزراعة في شمالها. وتُعَد جمعية "أكاسيا للجميع" جزءاً من جهود المواجهة في كل الجبهات؛ فتساعد النساء المحليات في تكوين تعاونيات زراعية تسمح لهم بزراعة محاصيل جديدة مثل الأكاسيا التي تشبه البازلاء، والتي استمدت منها هذه الجمعية الاجتماعية اسمها.
وبالنسبة لسارة التومي، التي تحمل الجنسيتين الفرنسية والتونسية، سبق الدافع الشخصي الذي دفعها للمشاركة في هذا المجال مشاركتها على المستوى الوطني. فمنذ ست سنوات، عندما رأت مزرعة أجدادها التاريخية بالقرب من مدينة صفاقس الساحلية تستسلم لآثار التصحر، لجأت إلى الخبرة التي جنتها من تواصلها مع طلاب العلوم البيئية في العاصمة الفرنسية باريس.
وقالت سارة: "في البداية لم يؤمن أحد بي، باستثناء القليل من النساء. لذلك، بدأتُ حملة تمويل جماعي انتهت بجمع 3000 يورو (نحو 3556 دولاراً). واستخدمتُ هذا المبلغ لإنشاء مشتل لزراعة أشجار الأكاسيا، والذي وافقت النساء على زراعته بعد ذلك".
الآن، وبالإضافة إلى زراعة أشجار الأكاسيا، يشترك فريق سارة في الترويج للعودة إلى زراعة محاصيل تونس الأصلية المحايدة بيئياً، بالإضافة إلى تنسيق إنتاج محاصيل أخرى تشمل المورينغا، والزيتون، واللوز.
ولا يحتاج أي من المحاصيل الجديدة إلى الأسمدة الصناعية، وجميعها -عند تخميرها وتغطيتها بعد حصادها- ستساعد في تجديد التربة التي زُرعوا بها. وتملك جمعية "أكاسيا للجميع" الآن نحو 300 مزرعة في مختلف أنحاء تونس، تشارك في مشروعات ستساعد في مواجهة تدهور التربة التي كانت في السابق تمد الإمبراطورية الرومانية بالجزء الأكبر من سلة خبزها.
وبالنسبة للنساء المشاركات في أعمال جمعية "أكاسيا للجميع"، تُعَد المسألة بسيطة. ففي مقابل زراعة المحاصيل الجديدة، ستوفر الجمعية الأشجار والتدريب اللازم لزراعة وحصاد هذه المحاصيل، وستضمن أنَّ أي محصول مُنتَج سيُباع في المحلات التي تفاوضت سارة وفريقها القوي المكون من خمسة أفراد معها لإبرام عقود. وبمجرد إنشائه، سيسمح هذا الهيكل التعاوني للنساء بشراء محاصيل إضافية، والمعدات اللازمة لزراعتها، والأهم، الحصول على الاستقلال المالي الناتِج عن المشاركة في مشروعٍ تجاريٍ ناجح.
وفي زغوان، تترأس نجية بن زيد، وهي طبيبة بيطرية متقاعدة، تعاونية "أكاسيا للجميع" المحلية، وتمتلك نحو 1300 شجرة زيتون قرب مدينة الفحص، على بُعد عدة أميال خارج زغوان. ويعود حضور جمعية أكاسيا للجميع في المنطقة بصورةٍ كبيرة إلى نجية، التي ظلَّت تقنع سارة التومي، بعدما سمعتها تتحدَّث عن مؤتمرٍ زراعي، حتى وافقت الأخيرة على زيارة المنطقة.
وأوضحت نجية، عبر أحد المترجمين، قائلةً: "أحببتُ النهج المُبتكَر لأكاسيا للجميع وفكرة إدخال محاصيل جديدة لا تحتاج للكثير من المياه. وكانت فكرة العَقد جذابة أيضاً. لقد أحببتُ فكرة أنَّني لن أحصل على سعرٍ ثابت لأيٍ ما كان المحصول الذي سأزرعه. وهذا ينطبق على الجميع في التعاونية".
وفي بساتين الزيتون في الفحص، تنضمُّ إلى نجية وسارة وفريقها مُزارِعةٌ أخرى، هي نعيمة الجبالي. وبينما تتجمَّع سُحُب العاصفة على نحوٍ يُنذِر بسوء، يتفقَّدن الرُقَع المزروعة بالمورينغا الصغيرة التي تشبه الحشائش وبدأت في الظهور، والتي كُنَّ قد زرعنها في شهر أغسطس/آب كاختبار. وتأملن أن تزدهر المورينغا، حينما يحين الوقت، في الفجوات الطويلة التي تفصل بين أشجار الزيتون، وأن تترسَّخ جذورها في التربة الزراعية في مواجهة الرياح التي تهب في أنحاء المنطقة.
وتبعد مزرعة نعيمة عدة أميال. وتشارك هي الأخرى في البرنامج التجريبي. وتوضح نعيمة أنَّها في الماضي كانت تُسلِّم أي شيءٍ تزرعه إلى زوجها، حتى يتمكَّن من بيعه. لكن الآن، يعود كل شيء إلى التعاونية. فتقول نعيمة: "كنتُ أعلم بشأن التصحُّر. وإذا لم تُعَدّ الأرض جيداً، فإنَّها تتلف. كلنا مزارعون ونعلم ذلك".
ولا تزال طموحات سارة، التي اختارتها مجلة فوربس الأميركية ضمن "أفضل 30 رائد أعمال تحت سن الثلاثين" في عام 2016، وعيَّنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخراً ضمن المجلس الرئاسي لمباردة إفريقيا، لم تضعف. فقالت: "أرغب في زراعة مليون شجرة بحلول عام 2018. إنَّ البيئة تجمع كل شيء معاً؛ الاقتصاد، والزراعة، وحقوق المرأة. كل شيءٍ موجودٌ هناك".