كنت أدرس بعض طلابي الماليزيين هذا الحديث: عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ إني أحتسب على الله أن يكفر السنة الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السنة التي قبله" (رواه مسلم).
فَسُئِلتُ هذا السؤال: ما قِيمَةُ تكفير سنة قبل يوم عاشوراء بعد تكفير سنة قبل يوم عرفة وسنة بعده لمن صام هذا وذاك؟
فأجبتُ قائلاً: قبل أن أُفَصِّلَ جواب سؤالك دَعْنِي أَضْرِبَ لك مثالاً:
لو أنَّ قميصك هذا الذي تلبسه اتَّسَخَ وتَقَذَّرَ، وغَسَلْتَهُ مَرَّةً، ثم غَسَلَتْهُ مَرَّةً ثانية، هل هناك فائدة للغسلة الثانية بعد الأولى؟
فقال: نعم، ازداد القميص نظافة.
فقلتُ: هكذا هو.
إن الله -عز وجل- من رحمته بأمة محمد، ومن عظيم نِعَمِهِ علينا أنه جعل العبادات التي فرضها علينا، والعبادات التي سَنَّها نَبِيُّه صلى الله عليه وسلم، جعلها طهوراً لنا من ذنوبنا في كل وقت، فصيام يوم عرفة يغسلنا من سيئاتنا خلال سنتين، ثم بعد شهر من يوم عرفة يأتي صيام يوم عاشوراء فيغسلنا غَسْلَةً أخرى، ويُزِيلُ عنا ما تَبَقَّى مِن قَذَرِ الْغَسْلَةِ السَّابِقَة وما اقترفنا بعدها من سيئات، فنزداد طهارة.
فإن لم يجد صيام يوم عاشوراء ما يُكَفِّرُهُ بعد صيام يوم عرفة، فقد يجد شيئاً من كبائر الذنوب فيخففها، فإن لم يجد، تَحَوَّلَ التكفير ثواباً، فوقع أجراً وثواباً في ميزان المسلم.
وهذه الحال ليست بصيام يوم عرفة وصيام يوم عاشوراء فقط، لا؛ بل إن الله -عز وجل- يغسل المسلمين من ذنوبهم غسلاً بعد غسل، فالغسل متتابع، دائم، مستمر، لا ينقطع، فكل العبادات [صلاة ، زكاة ، صيام ، حج] التي فرضها الله على المسلمين تُطَهِّرُ المسلمين وتغسلهم من ذنوبهم، وكل السنن التي سنها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تغسل المسلمين من ذنوبهم، وذِكْر الله والاستغفار الباب الأعظم لغسل المسلمين من ذنوبهم.
فكأني بالله -عز وجل- يريد أن نلقاه ونحن طاهرون مطهرون من ذنوبنا، فهيأ لنا ما يغسلنا به دائماً ودوماً، فأوجب علينا واجبات هي مُطَهِّرات، وسَنَّ لنا على يد نَبِيِّهِ سُنَناً يطهرنا ويغسلنا بها، فتأمل معي ما يلي:
1- الوضوء يغسل المسلم من ذنوبه: عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء، خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره" (رواه مسلم).
2- الصلاة تغسل المسلم من ذنوبه: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ قالَ: "أرَأيْتُمْ لَوْ أنَّ نَهْراً بِبَابِ أحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟". قَالُوا: لا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ. قال: "فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الخَطَايَا" (متفق عليه).
وعن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يتوضأ رجل مسلم فيحسن الوضوء فيصلي صلاة إلا غفر الله له ما بينه وبين الصلاة التي تليها".
3- الجمعة تغسل المسلم من ذنوبه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تَوَضَّأَ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأَنْصَتَ غُفِرَ له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام)
4- صيام رمضان يغسل المسلم من ذنوبه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن صام رمضان إيماناً واحتساباً، غُفِر له ما تَقَدَّمَ من ذنبه" (رواه الشيخان).
5- قيام رمضان يغسل المسلم من ذنوبه: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تَقَدَّمَ من ذنبه" (متفق عليه).
6- قيام ليلة القدر يغسل المسلم من ذنوبه: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تَقَدَّمَ مِن ذنبه".
7- رمضان إلى رمضان يغسل المسلم من ذنوبه: قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفَّارات لما بينهما إذا اجتُنِبَت الكبائر".
8- العمرة إلى العمرة تغسل المسلم من ذنوبه: قال صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفَّارة لما بينهما".
9- الحج يرجع المسلم منه كما ولدته أمه: قال صلى الله عليه وسلم: "مَن حجّ فلم يَرْفُث ولم يَفْسُق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه".
10- الاستغفار يغسل المسلم من ذنوبه، ومن ذلك: عن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "من قال: أستغفر اللَّه الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غُفِرَت ذنوبه وإن كان قد فرّ من الزحف" (رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ وَالْتِّرْمِذِيُّ والحاكم وقال: حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم).
وللنووي -رحمه الله- كلام بديع في هذا السؤال، قال في شرح صحيح مسلم عند كلامه على الأحاديث الواردة في هذا المعنى: وقد يقال: إذا كفر الوضوء فماذا تكفر الصلاة؟ وإذا كفرت الصلاة فماذا تكفر الجمعات ورمضان؟ وكذا صوم يوم عرفة كفارة سنتين وعاشوراء كفارة سنة، وإذا وافق تأمينه تأمين الإمام غُفر له ما تقدم من ذنبه؟
والجواب ما أجاب به العلماء، وهو أن كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير، فإن وجد ما يكفره من الصغائر كفره، وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة كُتبت به حسنات، ورُفعت به درجات، وإن صادفت كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغيرة رجونا أن يخفف من الكبائر. والله أعلم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.