يمكن الادِّعاء بأنَّ القلعة الموجودة في أربيل هي واحدةٌ من أقدم الأماكن التي لا زالت مأهولة بشكلٍ متواصل في العالم. لكن عالياً فوق الأبنية القديمة للغاية المُقامة من الطوب اللبِن، تبرز إضافةٌ واحدة جديدة فوق قمة التل: بوابةٌ جديدة.
بُنيت البوابة لتحل محل أخرى بناها الرئيس العراقي صدام حسين، الذي كان حاكماً آخر ضمن سلسلةٍ طويلة من الحكام المختلفين، من الآشوريين وحتى المغول وصولاً إلى العثمانيين، الذين جعلوا أربيل جزءاً من إمبراطورياتهم. لكن منذ سقوط صدام في عام 2003، جاءت هُوية جديدة لتسيطر على الأماكن العامة في المدينة: الهُوية الكردية.
عملت السلطات منذ عام 2006 على تجديد القلعة، التي أُهمِلَت بشدة في ظل حكم صدام حسين. وإلى جانب تدعيم المنازل المتداعية، أزالوا أيضاً أي علامةٍ تعود للديكتاتور السابق، الذي يتوقون لمحو آثاره، بحسب صحيفة الغارديان البريطانية.
وبالقرب من البوابة، التي أُعيد الآن بناؤها على الطراز القديم، يُرفرف علمٌ كردي ضخم فوق القلعة، يتكون من الألوان الثلاثة؛ الأحمر، والأبيض، والأخضر، إلى جانب شعار الشمس. وعلى طول الطرق الرئيسية المُتفرِّعة من تلٍّ رئيسي، يوجد أرشيف للموسيقى الكردية، ومعرض للأزياء الكردية التقليدية، ومتحف للنسيج الكردي.
ويقول سيرتيب مصطفى، مساعد مدير متحف النسيج، إنَّ الفكرة هي الحفاظ على ثقافةٍ قُضيَ عليها تقريباً جرَّاء هجمات الإبادة الجماعية التي ارتكبها صدام حسين بحق الأكراد.
وأضاف، بينما كان يجلس وسط عرضٍ مليء بالألوان للسجاد والمصنوعات اليدوية: "يتعين على كل شعب الاهتمام بثقافته، وتقاليده، حتى يحافظ على نفسه".
حتى الآن، يبدو أنَّ تلك الجهود قد آتت ثمارها. إذ برزت المدينة على نحوٍ متزايد كعاصمة كردستان العراق، والمركز السياسي والاقتصادي المهيمن لمجموعةٍ عِرقية قوامها نحو 35 مليون شخص، اتَّسمت سياساتهم إلى حدٍّ كبير بالانقسام، وقُسِّم موطنهم منذ الحرب العالمية الأولى بين العراق، وسوريا، وإيران، وتركيا.
ما الذي جذبهم؟
حين أطاح الغزو الأميركي بصدام حسين عام 2003، مُنهياً بذلك عقداً من العقوبات، وجاعِلاً أربيل مركزاً لأول منطقة حكم ذاتي كردية رسمية، توافد الأكراد على المدينة، فارِّين من القمع والصراع، أو ببساطةٍ منجذبين نحو اقتصاد المنطقة المزدهر.
وغمرت موجةٌ من شركات النفط، والمُطوِّرين العقاريين، وسلاسل المتاجر، والفنادق، والقنصليات أنحاء المدينة، فأعادت تشكيل طابعها ودفعت حدودها إلى السهول والأرياف المحيطة.
وتدفَّق المهاجرون الأكراد من بلدان سوريا، وتركيا، وإيران المجاورة، إلى جانب العمال المهاجرين من أوروبا وصولاً إلى جنوب آسيا، واللاجئين من مختلف مناطق العراق. وعلى مدار ما يقرب من عقدٍ من الزمن، تضاعف السكان تقريباً.
وقال شواس صابر، وهو مسؤول تخطيط عمراني سابق، مُتحدِّثاً عن الكيفية التي جذبت بها فورة أموال النفط والوظائف الحكومية مئات الآلاف إلى المدينة: "كان الأمر كالانفجار".
العرب والأتراك؟
ومع ذلك، فإنَّ أسماء الأحياء في مدينة أربيل القديمة، والحارات المُكتظَّة النشيطة، والمقاهي، والأسواق تشهد على تاريخٍ أكثر تعقيداً.
فيوجد حيٌّ يهودي قديم، إلى جانب حيٍّ يُعرَف ببساطة باسم حي العرب. وقبل نحو قرنٍ، تحت الحكم العثماني، كانت المنطقة مأهولة إلى حدٍّ كبير بالتركمان. وكان الأكراد الذين يصلون إلى أربيل من القرى المجاورة يميلون لتعلُّم اللغة التركية، كما يقول سعدي هاروتي، أستاذ التاريخ بجامعة صلاح الدين في أربيل. وأضاف: "حتى إنَّهم نسوا في بعض الأحيان لغتهم الخاصة".
ومع ذلك، وبحلول فترات الثورات الكردية ضد بغداد في الستينيات والسبعينيات، جعلت الهجرة من الريف أربيل منطقةً كردية على نحوٍ أكثر وضوحاً.
وبعد فرض منطقة حظر طيران من جانب تحالفٍ عسكري تقوده الولايات المتحدة في 1991، وهو ما منح الأكراد منطقة حكمٍ ذاتي بحكم الأمر الواقع عن بغداد، واجهت المدينة مجموعة جديدة من الأسئلة: كيف يجب أن تبدو العاصمة الكردية؟ وأي أسماءٍ يجب أن تُزيِّن لافتات شوارعها؟ وأي تماثيلَ يجب وضعها في ساحاتها؟ وكيف يجب التأكيد على تاريخها؟ وما المنطق الذي يجب الاسترشاد به في تنميتها؟
أين ذهب تاريخها المتعدد ثقافياً؟
اليوم، لا يكاد تاريخ أربيل المتعدد ثقافياً يظهر. ففي وسط المدينة اليوم يحتفي كلُّ شيءٍ بالرموز الكردية. فهناك شوارع مُسمَّاة تيمناً بمصطفى البارزاني، القائد التاريخي لحركة الاستقلال الكردية ووالد رئيس إقليم كردستان الحالي مسعود البارزاني، وشوارع أخرى مُسماة تيمُّناً بصلاح الدين الأيوبي، الكردي الذي قاد الحملات ضد الصليبيين.
وهناك تماثيل تحتفي بجيوي موكرياني، الناشر الكردي، والشيخ محمود البرزنجي، الذي قاد الثورات ضد سلطات الاستعمار البريطاني في العراق.
وفي مكانٍ قريب، يرتشف رجالٌ يرتدون العمائم والسراويل الكردية التقليدية المعروفة باسم الشروال الشاي في مقاهٍ مُلصَقٌ على جدرانها صور مقاتلي قوات البيشمركة الكردية، التي يعني اسمها "أولئك الذين يواجهون الموت"، في حين يستمعون إلى موسيقى كردية تقليدية.
ويتدلَّى العَلَم ذو الألوان الثلاثة من الرايات، مصحوباً بلافتاتٍ تحضُّ على التصويت بـ"نعم" في استفتاء الاستقلال المثير للجدل، والذي أُجري الشهر الماضي، سبتمبر/أيلول 2017.
يبدو الأمر كما لو أنَّه مشهدٌ ترويجي، والثقافة الكردية مُجسَّدة ومُسلَّعة من أجل السياح، لكن عند معرفة أنَّ السياح هنا قليلون، يبدو أنَّ الجمهور المُستهدَف هم الأكراد أنفسهم.
دبي تدمرها
إذا كانت إحدى سمات تطوُّر أربيل هي الحفاظ الدؤوب على الهُوية الكردية ورعايتها، فإنَّ السمة الأخرى التي برزت خلال التوسُّع المتسارع للمدينة هي الإهمال الكامل تقريباً لتلك الهُوية.
فخارج القلعة، تختفي هذه الأجواء الكردية العامة سريعاً لصالح الفنادق، والطرق السريعة، ومراكز التسوق المنتشرة.
وإن كان هناك أي قالب لتلك المرحلة من تطوُّر أربيل، فإنَّه لم يكن مرتبطاً بفكرة ماضي كردستان أبداً، بل برؤية المستقبل التي تُمثِّلها دبي، التي تُعَد مضرب مثلٍ إقليمياً للثروة والرخاء.
فمع تدفُّق عائدات النفط، سعى المسؤولون الأكراد عن قصدٍ لمحاكاة المدينة الإماراتية، عن طريق تصميم أربيل لتصبح مركزاً إقليمياً للسياحة والتجارة. وحينما انهارت أسعار النفط في عام 2014 واجتاح مسلحو تنظيم "داعش" مناطق شمال العراق، تلاشت أحلام إقامة دبي جديدة إلى حدٍّ كبير أيضاً. واليوم، تنتشر الهياكل الخرسانية غير المكتملة وواجهات المتاجر الفارغة في مناطق وسط المدينة.
انقسام
ويبدو بعض الجهد المبذول لإضفاء طابعٍ كردي على ما تبقى من المدينة عبثياً؛ إذ توجد تماثيل تحتفي بنساءٍ عظيمات من الماضي، مثل الشاعرة والمؤرخة مستورة أردلان والناشطة الشهيدة ليلى قاسم، عند مدخل أحد مراكز التسوق الضخمة.
وفي حالاتٍ أخرى، تشي تلك الجهود بانقساماتٍ وتعقيداتٍ أعمق. فقد سُمِّي مُتنزَّه سامي عبد الرحمن، الذي بُني فوق قاعدةٍ عسكرية سابقة، تيمُّناً برمزٍ في الحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم قُتِل في تفجيرٍ انتحاري عام 2004. لكن بالنسبة لأنصار الحزب الرئيسي المنافس، الاتحاد الوطني الكردستاني، يُعَد ذلك الاسم تذكرةً بالحرب الأهلية المريرة التي قاتلوا فيها في السابق ضد إخوانهم الأكراد في التسعينيات، حين دعا عبد الرحمن قوات صدام حسين للمساعدة في طردهم.
وفي ظل زيادة توسُّع أربيل أكثر من أي وقتٍ مضى، لا يقتصر واجب المُخطِّطين على تحديد كيفية اجتياز هذه التناقضات فقط، ولكنَّ يشمل كذلك تحديد كيفية ترويض التنمية الجامحة في مناطق وسط المدينة.
ولذلك، قال عبد المؤمن معروف، مدير التخطيط العمراني في وزارة البلديات والسياحة التابعة للحكومة الإقليمية، إنَّ المدينة اقترحت إنشاء "حزام أخضر" يضم حدائق، ومزارع، ومناطق مُشجَّرة للسيطرة على الزحف العمراني، واستغلال الزراعة التي تتميز بثراءٍ طبيعي في كردستان، ولكنَّها تعاني إهمالاً كبيراً.
وللنجاح في هذا المسعى، يقول معروف إنَّ هذه الرؤية يمكنها الاستفادة من تاريخ المدينة، وليس المقصود هنا رؤية الماضي من منظورٍ واحد زائف، بل رؤية تتبنى تنوع المدينة التاريخي.
وأشار إلى أنَّ المباني ذات الطراز القديم في المنطقة كانت أنسب لبيئاتها بشكلٍ عام من مباني العصر الحالي.
وأضاف: "في الماضي، كنتَ تتنقل من قريةٍ إلى أخرى، وتعرف حتماً أنَّك سترى شيئاً مختلفاً، لأنَّهم كانوا يستخدمون الطوب في إحدى القرى، ويستخدمون الحجر الطبيعي في قريةٍ ثانية، بينما يستخدمون الطين في قريةٍ أخرى. ولكن حالياً، تعج جميع المناطق بكتلٍ خرسانية".
وبينما تتجه المنطقة نحو محادثاتٍ مع بغداد بهدف الاقتراب من الانفصال، ستكون معالم هوية المدينة الواضحة أمراً أقل أهمية من قدرة المنطقة التي تحكمها كردستان على الصمود بمفردها بعد الاستقلال.
وقال نباز غاردا، وهو محاسبٌ يبلغ من العمر 57 عاماً، وهو يجلس تحت القلعة ويحتسي الشاي، إنَّ الفساد والإفراط في الاستثمار في الاستهلاك دون التركيز على البنية التحتية أو التعليم تَرَكَا الاقتصادَ الكردستاني، وبالتالي شعب المنطقة، عُرضةً للخطر.
وأضاف غاردا: "كافح الشعب الكردي طوال كل هذا الوقت لكسب هويته المتمثلة في لغته، وصُحُفه الإخبارية، وكُتُبه، وتعليمه الكردي، ووسائل الإعلام، والعطلات. وبفضل الله، هذه الهوية الكردية موجودة هنا بالفعل، ولكن إذا تطرَّقنا إلى الاقتصاد، فسنجده هشَّاً".