من المفارقات الغريبة أن يكون مفهوم كالاقتصاد الإسلامي، الذي تم تدارسه والدعاية له بين مئات الباحثين وعشرات الجهات البحثية عبر ما يقرب من خمسة عقود حتى الآن، مفهوماً مُلتبساً فاقداً للتدقيق والتحديد.
أما المثير للسخرية حقاً فهو أن يكون نتاجاً لخلط علمي في وعي وإدراك مجموعة من المفاهيم الأساسية في الاقتصاد السياسي؛ مما يعبر عن ضحالة فكرية وضعف علمي وربما – وهو الأسوأ – تعامٍ مُغرض عن الفروق الجوهرية بين تلك المفاهيم؛ إذ غالباً لا يعي الداعون لذلك الاقتصاد الإسلامي – أو يتجاهلون بوعي – الفروق النوعية بين مفاهيم النظام الاقتصادي والهيكل الاقتصادي والسياسة الاقتصادية، رغم أوليّتها وجوهريتها كمفاهيم حاسمة في الوعي الاقتصادي عموماً، وكمعايير للتمييز بين المدارس والاتجاهات الاقتصادية المختلفة خصوصاً.
فيتمثل المفهوم الأول: "النظام الاقتصادي" بمحتوى تجريدي نوعاً (كالاشتراكية أو الرأسمالية أو الإقطاع بأقصى معانيهما تجريداً ونقاءً)، ويتمايز نوعياً بعلاقات الإنتاج المرتبطة جوهرياً بنمط الملكية وشكل العلاقات الاجتماعية المُنظمة للعملية الإنتاجية، فالرأسمالية تميّزها علاقات إنتاج رأسمالية مضمونها تفاعل العمل الحر المأجور مع رأس المال في تحوّلاته في إطار علاقتها الاقتصادية الاجتماعية.
بينما يقوم الإقطاع على علاقات إنتاج إقطاعية مضمونها هيمنة الإقطاعي على الأقنان والفلاحين عبر وسائل مادية ومعنوية ذات طابع غير اقتصادي، إلى جانب امتلاكه الأرض كموضوع الثروة الأساسي، وكأداة هيمنة اقتصادية اجتماعية، فيما تقوم العبودية على علاقات استعباد مباشر بسيط، مضمونها القهر الفج بامتلاك العبيد أنفسهم كأداة إنتاج دونما تمييز بين شخصيتهم الإنسانية والاقتصادية.
بينما يضيق المفهوم الثاني: "الهيكل الاقتصادي"؛ ليمثل التجسّد الواقعي للنظام الاقتصادي في ظروف تاريخية وجغرافية وثقافية معينة (كما نقول الرأسمالية الأنجلوساكسونية، والرأسمالية الألمانية، والرأسمالية المصرية.. إلخ بما بينها جميعاً من اختلافات كبيرة ضمن إطار عام مشترك من علاقات الإنتاج الخاصة بالنظام الاقتصادي الذي يجمعها جميعاً الانتماء إليه).
ذلك التجسّد الذي يعطي للنظام الاقتصادي حياةً واقعية؛ فيكسو عظامه لحماً وأعصاباً وجلداً، ويبث في أطرافه الدم والحياة، من خلال الخصوصيات الاجتماعية والسياسية والثقافية المختلفة الخاصة بكل مجتمع على حدة، والمرتبطة بسياق تطوره الاجتماعي التاريخي وإطاره الجغرافي الطبيعي؛ فينتج رأسماليةً أميركية ذات سمات معينة مختلفة بدرجة أو بأخرى عن الرأسمالية الفرنسية، بما لها من خصائص ذاتية نتجت عن تاريخ تطورها الخاص، ولتختلف الاثنتان جذرياً عن الرأسمالية المصرية ذات السمات المختلفة تماماً هي الأخرى.
فيما يضيق المفهوم الأخير: "السياسة الاقتصادية"؛ ليتمثّل في مجرد سياسات الإدارة التي تدفع وتعالج بها الدولة آليات عمل ومشكلات الهيكل الاقتصادي القائم، وتوجه وتدير بها ما يشمله ذلك الهيكل من مؤسسات اقتصادية مختلفة؛ تحقيقاً لأهدافها الاقتصادية واستراتيجياتها السياسية وبرامجها الاجتماعية المحددة.
فتشمل كافة السياسات المالية المتعلقة بالنفقات والإيرادات العامة، والسياسات النقدية المتعلقة بالفائدة والعملة وسعر الصرف، والسياسات التجارية المتعلقة بالصادرات والواردات السلعية والخدمية، والسياسات الاستثمارية المتعلقة بتخصيص الفائض الاقتصادي على استخداماته المختلفة.. إلخ من سياسات يمكن أن تحكمها التوجهات الذاتية للحكومات والقيم الأخلاقية والاعتبارات المعيارية السائدة في المجتمع، إلى جانب – وغالباً في حدود – المصالح الاجتماعية المهيمنة.
* أين يمكن للفكر الإسلامي أن يمارس تأثيراً في الاقتصاد؟
وببيان طبيعة وحدود المفاهيم السابقة؛ يتبيّن مدى ما يمارسه منظّرو الاقتصاد الإسلامي من خلط بين المفاهيم الفكرية وعبث بالأوليّات العلمية، فبينما تتعامل معظم المعالجات الفكرية التي يقدمونها مع نطاق "السياسة الاقتصادية"، ولا تصل لدى أكثرهم جذريةً وعمقاً إلى التعامل مع نطاق "الهيكل الاقتصادي" التاريخي والمادي بطبيعته، أي المستقل مثله مثل مفهوم "النظام الاقتصادي" الأعمق موضوعاً والأكثر تجريداً، عن أي نوع من المفاهيم الدينية أو القيمية، بشكل يخرجهما من نطاق مناقشة الاقتصاد الإسلامي أساساً! ومع ذلك نجد لدى أولئك المنظرين ما يكفي من شجاعة الجهل للحديث عن "نظام اقتصادي" إسلامي، دونما وعي بمحتوى وحدود المفاهيم التي يتعاملون بها ومعها!
والواقع أن السياسة الاقتصادية، وبعض الجوانب المؤسسية الخاضعة لها، هي وحدها التي يمكن أن يتسع صدرها بما فيها من مساحة معيارية وقيمية وأخلاقية لتأثير الفكر الإسلامي، إذ يمكنه التموضع فيها بما فيه من مجموعة قيم ومبادئ اجتماعية وسياسية عامة، بما ينتج ما قد نتسامح في تسميته تجاوزاً سياسة اقتصادية إسلامية، وفقط من الوجهة الإجرائية البحتة.
حيث لا يخلو هذا التسامح بكافة نتائجه المحتملة من أخطاء علمية ومخاطر عملية، خصوصاً من جهة المضمون العملي التطبيقي لتلك القيم والمبادئ المُفترض كونها عامة بحكم غلبة الاختلافات الفقهية، وإمكانية استبطان الفقه السائد للمصالح المُهيمنة الظالمة والانحيازات الاجتماعية المرتبطة بها، كما هو الحال دائماً في المجتمعات الطبقية؛ ومن ثم إعطاؤها مشروعية دينية تشرعن الظلم وتكرّسه من جهة، كذا تجمّد من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ما هو متغيّر بطبيعته، فتدعم الجمود والتخلف بدلاً من الحركية والتقدم من جهة أخرى.
تلك قضية أخرى تستحق مقالاً مستقلاً، مثلها مثل قضية أخرى تحتل مساحة ضخمة في كتابات الاقتصاد الإسلامي؛ لتحيله لنوع من الإنشاء لا العلم، وهي التناول الأخلاقي القروسطي لعلم الاقتصاد؛ حيث افتراض بناء نظام اقتصادي على أسس من الأخلاقيات الإسلامية العامة، التي تشمل وتنتج بحسب افتراضات منظريه سلوكاً اقتصادياً إسلامياً وفاعلاً اقتصادياً إسلامياً، بما يفترض نوعاً خاصاً مختلفاً من الإنسان، هو الإنسان المسلم في تجلّياته المختلفة كرأسمالي وتاجر وعامل وموظف ورئيس جمهورية!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.