اشترى إيفان عبد الله بيتاً جديداً بعد مدة قصيرة من إخراج تنظيم داعش من بلدته التي تقع في منطقة أيزيدية العام الماضي 2016. كان استثماراً في مكان نشأت فيه أجيال من عائلته على حد قوله.
لكنه وهو أب لثلاثة أبناء ندم على قراره بالفعل.
البلدة الجبلية التي أغلب سكانها من الأيزيديين والمسيحيين، أكثر الأقليات تعرضاً للاضطهاد في العراق أصبحت مركزاً لحرب شدٍّ وجذبٍ بين الحكومة العراقية والإقليم الكردي، بعد أن صوَّت الأكراد لصالح الاستقلال مؤخراً، حسب تقرير لصحيفة واشنطن بوست الأميركية.
تتبع بعشيقة الحكومية العراقية المركزية من الناحية القانونية، لكنها واقعة تحت سيطرة القوات الأمنية الكردية. يرى المسؤولون الأكراد البلدة باعتبارها جزءاً من دولتهم المستقلة المستقبلية. مرة أخرى حلت ظلال الشك على مستقبل البلدة فجأة.
بحسب عبدالله: "لا يمكنك التفكير للمدى البعيد في هذا البلد، مهما كانت الخطط التي تضعها، يحدث شيء يفسد كل مخططاتك".
بعشيقة واحدة من حفنة من البلدات والمدن التي تعد بمثابة اختبار لقدرة حكومة كردستان الإقليمية على الحكم الذاتي، وعزم الحكومة المركزية في العراق على إيقاف تفتت البلاد.
كيفية سير الصراع تؤثر بشكل عميق على مصائر الأقليات الإثنية والدينية التي تشظَّت وتعرَّضت للمذابح والحصار، بفعل عقود من الحرب، ومؤخراً بفعل سياسة الإبادة من قبل تنظيم داعش. تعيش معظم الأقليات العراقية على تخوم مناطق شمالي البلاد، حيث الدولة الكردية المستقلة المفترضة.
تخلو عنا
غادر اليزيديون والمسيحيون البلاد في السنوات الأخيرة أفراداً وجماعات، خصوصاً بعد اكتساح تنظيم داعش لأجزاء من العراق في 2014.
ويقول اليزيديون إنهم تحديداً تم التخلي عنهم من قبل القوات الكردية ليتعرضوا للمذابح والاستعباد الجنسي من قبل التنظيم المسلح.
تعتقد المجموعتان (المسيحيون واليزيديون) أنهما ستكونان الخاسر الأكبر من الصراع بين بغداد والإقليم الكردي.
يقول سعيد أكرم منصور، البالغ من العمر 67 عاماً، والذي يعمل حارساً لكنيسة ماركوركيس التاريخية في بعشيقة "نحن بين مطرقة الحكومة الكردية وسندان الحكومة المركزية في بغداد".
بعشيقة التي تقع على بعد أميال شمالي الموصل كانت بلدة تنعم بالهدوء، عاش فيها اليزيديون والمسيحيون ونسبة صغيرة من المسلمين السنة في وئام. كانت الكنائس والمساجد تبنى على مرمى حجر من بعضها البعض.
ساهمت البلدة التي بلغ عدد سكانها 50 ألفاً قبل سيطرة تنظيم داعش مساهمة كبيرة في اقتصاد العراق وثقافته.
تنتج المزارع المحيطة بها الزيتون الذي يباع في جميع أرجاء البلاد، وكذلك الصابون وزيت السمسم. كما عرف عنها كذلك أنها متجر العراق من الخمور، لأن المصانع هناك كانت تنتج العَرَق، وهو مشروب كحولي بنكهة اليانسون.
بعد الغزو الأميركي أمنت قوات البشمركة الكردية البلدة، مما أعطى الأحزاب السياسية الكردية أول موطئ قدم في سهول نينوى، وهي منطقة من البلدات والقرى بها نسبة مرتفعة من الأقليات من بينهم اليزيديون والمسيحيون.
كانت بعشيقة واحدة من الأماكن القليلة في العراق لا يعيش فيها اليزيديون في مجتمعات منعزلة. عزلتهم في الأماكن الأخرى جعلتهم عرضة لاضطهاد تنظيم داعش، ودفعت محنتهم الولايات المتحدة للعودة مجدداً إلى العراق.
أدى انسحاب البيشمركة من مدينة سنجار في ليلة من ليالي صيف 2014 إلى مذبحة ارتكبت ضد اليزيديين، واستعباد آلاف النساء من قبل تنظيم داعش. بعدها بأيام غادر البيشمركة بعشيقة، وأجبرت العائلات المسيحية واليزيدية على الفرار بمفردها.
هزمت قوات البيشمركة مدعومة بالغارات الجوية الأميركية داعش في بعشيقة، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي 2016.
جرح عميق
واليوم الحكومة العراقية هي المسؤولة عن الخدمات العامة في بعشيقة. الكهرباء لا يمكن الاعتماد عليها ومياه الصنبور تتدفق بشكل منقطع. لا توجد سيارات لرفع القمامة التي تتراكم في الشوارع. فريق واحد من ثلاثة رجال بعربتهم اليدوية ومجارفهم يجوبون الشوارع التي هشمتها الهجمات الجوية أثناء القتال ضد تنظيم داعش.
المتقاعدون القدامى يتسلمون معاشاتهم من الحكومة العراقية. العديد من أبنائهم البالغين يعملون لدى الحكومة الكردية هذه الأيام، معظمهم في قوات الشرطة والجيش التي تجوب الشوارع. وصل انعدام الثقة بين الطرفين إلى مستويات عالية.
لكن التخلي عن المدينة من قبل البيشمركة ترك جرحاً عميقاً.
يقول عبدالله: "كانت لحظة بائسة، تركنا أحباءنا غير عارفين إذا كنا سنراهم مجدداً".
كجزء من حملتهم لنيل الاستقلال قال المسؤولون الأكراد، إن سجلهم في حماية الأقليات العرقية أفضل من جهود الحكومة العراقية. لكن في الشهور الأخيرة اشتبك اليزيديون مع القوات الكردية، وتمت استعادة خدمات أساسية قليلة في المدن المتنازع عليها الواقعة تحت سيطرة الأكراد.
ما زالت بعشيقة تحمل ندوب الحرب مع داعش. ما زالت العديد من المنازل مهدمة بفعل المتفجرات، وما زالت بعض المباني مزدانة بالرسوم الغرافيتية التي تمجد زعيم التنظيم المتشدد أبو بكر البغدادي. ما زالت البلدة نصف فارغة، بينما يعيش أهلها كلاجئين في أوروبا أو في مخيمات اللجوء في أنحاء متفرقة من العراق.
لكن بعضهم عادوا مفضلين بلدة شبه خالية تناضل للعودة إلى الحياة على العيش في مكان آخر بين الغرباء.
يقول بسام محمود، صاحب متجر أيزيدي يبلغ من العمر 50 عاماً "هذا موطني، هذا موطن أجدادي وأجداد أجدادي، نحن عراقيون ولا ننتمي لأي مكان آخر".
تعرَّض حس الانتماء هذا للخطر بسبب الاهتمام المتزايد للمسؤولين الأكراد، الذين يقول عنهم السكان إنهم تكلموا أكثر مما سمعوا منذ مجيئهم إلى البلدة.
قبل الاستفتاء الكردي قال الزعيم الروحي ليزيديي بابا شيخ خورتو حاج إسماعيل قال "إنه يتبع سياسة الحياد"، مضيفاً "أن المشكلة مشكلة الأكراد وحدهم هم من يتخذون القرار فيها"
بينما أدى إعلان أمير الديانة اليزيدية في العالم أجمع، تحسين سعيد بك، تأييده للاستفتاء لإثارة موجة غضب داخل الشارع الأيزيدي، لأنهم كانوا يفضلون الحياد وعدم الانحياز على حساب طرف آخر، وفقاً لما ورد في تقرير لوكالة سبوتنيك الروسية.
لماذا صوتوا بنعم؟
قبل استفتاء الـ25 من سبتمبر/أيلول 2017، بأسابيع زينت السلطات الكردية الشوارع بالأعلام الكردية. وعلقت لافتات هائلة تحمل صورة الرئيس الحالي للإقليم مسعود بارزاني على المباني.
ونقلت واشنطن بوست عن سكان المدينة قولهم إن الرسالة كانت واضحة: لم يكن من المتوقع سوى التصويت بنعم لاستقلال كردستان.
يقول محمود: "لا يهم إن صوت بنعم أم لا، فلا أحد يعرف أين تذهب صناديق الاقتراع هذه"، يضيف قائلاً إنه "صوت بنعم على كل حال"
يضيف: "لا تنس أن هناك أناساً يراقبون، كل الناس هنا من البيشمركة".
قال زهير وهو مقاتل يزيدي في قوات البيشمركة يبلغ من العمر 33 عاماً، إنه هو وعدد آخر من مقاتلي البيشمركة أخذوا إلى مركز اقتراع خارج بعشيقة، حيث أدلوا بأصواتهم تحت سمع وبصر قادتهم المباشرين.
زهير الذي رفض الإفصاح عن اسمه كاملاً خوفاً من العقاب، قال "الأمر مؤلم، أنا عضو في البيشمركة تركت قومي حتى دون أسلحة يدافعون بها عن أنفسهم في سنجار. لكن كيف أترك البشمركة؟ كيف أعيش؟ أنا بحاجة لراتبي"
إخفاء نتائج الاستفتاء
لم تُفصح سلطات الانتخاب الكردية عن نتائج الانتخابات، التي تظهر أصوات الناس في المناطق المتنازع عليها.
يقول سكان بعشيقة، إنهم يجهزون أنفسهم لجولة جديدة من النزاع المسلح. البلدة لا تقع فقط على الحدود بين جيران متصارعين، بل هي موقعٌ لاكتشافات نفطية جديدة أيضاً.
حتى لو نجح رهان الأكراد على الاستقلال في النهاية من خلال المفاوضات، يقول سكان بعشيقة إن إيمانهم في أن يتم تقبلهم في الدولة الكردية الجديدة بشكل كامل ضئيل جداً.
يقول محمود "في كل السيناريوهات نحن من سيعاني. بنى الناس حياتهم كاملة هنا لأجيال، وفي ليلة واحدة فقدوا كل شيء. عدنا إلى نقطة الصفر، ونتوقع أن يحدث هذا مجدداً".
عبدالله، مالك المنزل الجديد قال: "هناك سلام داخلي مفقود، كل ما آمله الآن ألا يقرع أحدهم باب داري يخبرني بأن عليَّ المغادرة. هذا كل شيء".