“الماء بحوزتنا لا يكفي للوضوء”.. رسالة لمقاتلي داعش تكشف عن المأزق الذي يعيشونه في آخر أيامهم بمدينة الرقة

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/08 الساعة 06:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/08 الساعة 06:33 بتوقيت غرينتش

كشفت رسالة اصطادها مقاتل كردي شاب، لأحد مقاتلي تنظيم "الدولة الإسلامية" الشرسين في مدينة الرقة، المأزق الذي يعيشه عشرات المقاتلين من التنظيم في عدد من الأحياء المدمرة في "دولة الخلافة".

فعبر جهاز راديو محمول، استمع المقاتل لـ"أبي عواد"، الذي بدا مضطرباً بشدة. إذ بدأت الإمدادات تنفذ من رجاله المهزومين المختبئين داخل ركام المنازل المتهدمة بفعل القصف، وبدأ صبرهم يتآكل، ومعه انضباطهم، وفقاً لما نقلته صحيفة The Guardian البريطانية.

وقال أبو عواد، متحدثاً على موجة راديو كان من يطاردونه يراقبونها على بعد شارعين، من الجانب الآخر من جبهة القتال على مدينة الرقة: "أبا أسامة، الماء بحوزتنا لا يكفي للوضوء، والدواء لا يكفي لنعالج جرحانا".

ردَّ عليه رجلٌ بصوتٍ متعب: "تيمموا بالتراب، وسأبعث إليكم ببعض الإمدادات في الصباح".

كان مقاتلٌ كردي شاب يستمع إلى المحادثة على جهاز راديو محمول، وتعرَّف على الصوت. قال الكردي لباقي أفراد وحدته الرابضين في ساحة منزلٍ سيطروا عليه: "إنَّه سوري. هذا زعيمهم، أبو أسامة. ذات مرة، قال لنا داعش على التردد نفسه: سنحرقكم، ثم ندفنكم. ولم يكن للرد معنىً أو فائدة".

وتعتقد الصحيفة البريطاينة أنَّ 300 مقاتل فقط هم كل مَن تبقّى من تنظيم داعش في المدينة، مستمسكين برُكنٍ من عاصمة خلافتهم المزعومة، التي تقلَّصت بعد 5 أشهر من المعارك الدامية إلى 3 أحياء مُدمَّرة فقط.

وكان المبعوث الأميركي للتحالف الدولي لمحاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، بريت ماكغورك، قدَّر في شهر أغسطس/آب 2017، أعداد المقاتلين المتبقّين للتنظيم بمدينة الرقة شمال شرق سوريا بألفي مقاتل.

ليس للمقاتلين الباقين داخل الرقة مكان يذهبون إليه، وهُم على وشك ملاقاة حتفهم في أطلال المدينة التي بدأت فيها قصة داعش في سوريا قبل ما يزيد عن 4 أعوام.

ساحة برج الساحة

كل بضع دقائق، يُسمع دوي انفجار يصم الآذان، ثم صافرة مدفعية، وبين وقتٍ وآخر يُسمع هدير شاحنة صغيرة مكدسة بالجنود تتقدَّم إلى خط الجبهة، مع آلاف النازحين والفارّين والمعطوبين من جحيم الحرب ووحشية داعش.

ووفقاً للصحيفة البريطانية فإن بقايا الصراع على الرقة تتركَّز الآن في متاهةٍ من الشوارع والمنازل الخرِبة، تقود إلى ساحة برج الساعة، حيثُ الرؤوس المقطوعة المعلقة على الأوتاد بعد الإعدامات التي نفذها داعش واستدعى السكان ليشهدوا تنفيذها.

هذا المكان بالذات يعد بالنسبة لداعش مركز قوتهم، فقد انطبعت هذه الساحة الدائرية في نفوس الناس حول العالم باعتبارها رمزاً للتهديد الداعشي. وسيعني فُقدان التنظيم سيطرته على هذه الساحة، في أعين الكثير من الناس، اندحار داعش.

تغطي قوالب القرميد والحديد الملتوي الطرق المؤدية إلى الساحة. ويتمركز قناصة داعش على الجانبين. فالسيطرة على ساحة الساعة ستحطم رمزياً قبضة التنظيم على المناطق الواقعة التي سيطرت عليها وفقدتها واحدةً تلو الأخرى على مدار العام الماضي. وعبر فتحةٍ في حائطٍ يستخدمها فريق من القناصة الأكراد، يُمكن رؤية الساحة وبرجها العالي على بُعد 500 متر فقط.

هذه الساحة كانت شاهداً على عمليات إعدام التنظيم، فقد نقل إسماعيل، وهو صيدلي بمدينة الرقة هرب منها قبل ستة أشهر وانضم إلى تحالفٍ مدعومٍ من الولايات المتحدة يُدعى قوات سوريا الديمقراطية: "كان التنظيم يُنفِّذ نحو 13 إعداماً كل شهر. وكانوا يصطفون في الساحة الدائرية مرتدين الأقنعة، ويجوبون الطرقات بمكبرٍ للصوت يأمرون الناس بالمُشاهدة. وإن كنت جاسوساً، قطعوا عنقك من الأمام. ونفس الأمر إن كنت مُجدِّفاً أو قاتِلاً. أما السحرة، فتُضرَب أعناقهم من الخلف. والنساء تُطلَق عليهن النيران دائماً".

مشاهد من عهد داعش

وتحدَّث مُقاتلون من كل مناطق الجبهة، رجالاً وفتياناً -الكثير منهم من أهل الرقة- بالحقائق عن أشياء لم يكُن تخيُّلها ممكناً قبل عهد داعش. فيقول موسى، 21 عاماً، مُشيراً إلى أنقاض منزلٍ على الطريق: "جاؤوا ليأخذوا أخي من المنزل، وقطعوا رأسه وعلَّقوا جسده مصلوباً بالقرب من حلب. ولم يسمحوا لنا حتى بالسؤال عن السبب. وفَقَدَ رامي، وهو مُقاتلٌ عربي آخر من الرقة، أخاً له على يد رجالٍ من التنظيم جاؤوا إلى منزله. ويقول "كانوا سوريين، من بيننا، وإلا ما كانوا ارتدوا أقنعة. لقد قتلوا أمي أيضاً في إحدى نقاط التفتيش".

وتمركز الرجال في مبنى رمادي من ثلاثة طوابق، على بُعد أقل من ميلين (3.2 كم تقريباً) جنوب برج الساعة. وغثَّت الغرف بالطعام المتعفن والذباب. وكانت سيارة نصف نقل تسد أحد مداخل القاعدة، بينما آخر مسدود بسواتر ترابية. وفي الطابق الثاني، كان هَزَمْ، كردي بعمر 28 عاماً من مدينة كوباني، يصيح بتعليماته بلا توقف في راديو يحمله في يده الباقية. إذ فَقَدَ هزم يده الأخرى في معركةٍ لاستعادة بلدته الأم قبل عامين، بفعل قذيفة هاون. وحين يُشير بما تبقى من معصمه مُوجِّهاً الأوامر لرجاله، كان لهذا أثره عليهم.

في الليلة السابقة، أرسلت الوحدة ستة مقاتلين شباناً إلى ما وراء مقبرة حطم داعش كل شاهدة فيها، من أجل محاصرة الجهاديين. لكنَّ موقعهم انكشف، وأُصيب اثنان منهم بقذيفة آر بي جيه، وتحرَّكت باقي الوحدة لإنقاذهم. وسار هَزَمْ ذهاباً وإياباً في شرفة القاعدة، في حين قصفت الطائرات مواقع داعش. اخترقت موجة الانفجار جدران المدينة الطينية القديمة بُنيّة اللون، ووصلت إلى مركز الوحدة. وبعد وقتٍ قصير، بدأ الراديو العمل من جديد. "أرسلوا سيارة الهامر. لدينا شهيدان. ومُصابون. أربعة مُصابين".

بعد ساعة، كانت سيارة الجيب المُدرعة الوحيدة -التي تلقتها الوحدة من الولايات المتحدة- تصدر صريراً عالياً وتجوب الشارع بينما تتدلى أرجل جثث الموتى من الخلف، ويتكدس الجرحى في الأمام. ثم تراجعت شاحنة باتجاه السيارة، ورفع الرجال الجثث باستخدام الملاءات ونقلوها برفقٍ إلى صندوق السيارة المفتوح. وصعد الجرحى إلى جانب الجثث. وكان فتى من المصابين، مصدوماً وصُمَّ من القصف، يريح رأسه على جثة من الجثث، بينما انطلقت الشاحنة إلى عيادةٍ طبية تقع إلى جانب سيارة نقل مقلوبة، ومنازل محطمة مهجورة.

من أصل 300 ألف نسمة من سكان المدينة، لم يعُد هناك مدني واحد في الرقة الشرقية بحسب الصحيفة البريطانية، وما رصدته وفي غيابهم، الرسوم الجدارية "الغرافيتي" على الحوائط التي تحدثت نيابةً عنهم، ونيابةً عن محتليهم المهزومين، فضلاً عن المجموعات الدولية التي جاءت إلى الرقة لتُحاربهم.

وقالت إحدى الرسائل التي كتبها مقاتل داعشي على الحائط: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة". وكتب آخر: "سنطهِّر الرقة من دنس الإرهابيين". وترك الأناركيون اليونانيون، الذين يقاتلون إلى جانب الأكراد والعرب، هم أيضاً أثرهم على حوائط الرقة، فكتبوا "روفيكوناس، الرقة 2017" على حائط قريب من ساحة القتال. (روفيكوناس منظمة أناركية يونانية).

تقود هيفدا، وهي امرأة في عقدها الرابع، قاعدة صغيرة لكن حسَّاسة. وكانت هيفدا تكنس الأرضيات وتطهو الوجبات، وتحرس القاعدة، وتعقد الجلسات حين تريد. وقالت: "حين ترغب في شيء تعلم أنَّه حق، سيأتيك بالشجاعة والاقتناع". وقد أطاعها الأكراد والعرب في القاعدة، كما أطاعوا دليل، وهو شخص من مدينة باتمان التركية، الذي رافق هَزَمْ في قاعدته.

وبالقرب من الجبهة، قال إلياس، 25 عاماً، من مدينة الحسكة، حاملاً راديو يلتقط موجات داعش في يدٍ، وجهازاً آخر يتحدث عبره إلى رجاله في اليد الأخرى، إنَّ دور كتائب الرقة أساسي في الانتصارات التي تحقَّقت حتى الآن، كما كان للضربات الجوية الموجهة التي شنها التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة دورها.

وبينما ينسحب التنظيم، يحفر رجاله أنفاقاً تحت الأرض تفادياً لقصف المقاتلات من الأعلى. ويعثر المقاتلون على أنفاق جديدة كل يومٍ، وكلها تقريباً مفخخة. وقال إلياس: "المجهود المبذول في زراعة الألغام مذهل. لقد فقدنا رفيقاً في هذا الفناء".

وكانت رائحة الموت عالِقة في المكان، حيثُ عُثِر على نفق وعبوة ناسفة. وكان الرجال قد عثروا على جثة مقاتل داعشي هنا في اليوم السابق، ودفنوا جثته في مكانٍ قريب.

وبينما ينال التعب من مقاتلي التنظيم الإرهابي، يقول مطاردوهم إنَّ سقوط الرقة ألهب حماسهم. ويؤمن القادة بأنَّ المدينة ستسقط في غضون أربعة إلى ستة أسابيع، وكل يومٍ تضيق أماكن اختباء المتطرفين بين الركام والأنفاق، في المدينة التي كانت يوماً تُمثِّل مركز حكمهم في سوريا.

إنَّ الدمار الساحق الذي حلَّ بالرقة يحكي عن مكانٍ مرَّ بما هو أكثر من الحرب. وتُلقي نفسية المدينة المحطمة بظلالها الثقيلة على ساحة القتال. فيقول أحمد عيسى، طالبٌ بعمر 25 عاماً: "كل شيءٍ تحطَّم. لن يعود والداي إلى هنا أبداً. ولن أسمح لأخواتي بالعودة. هُنا تطاردنا الأرواح الشريرة، ونحن بحاجةٍ إلى ما يُطهِّرنا".

تحميل المزيد