منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا كان نهر النيل هو السبب الوحيد وراء بقاء واستمرار الحضارة المصرية، حيث منح البلاد شرياناً من الأراضي الخصبة التي تمتد وسط الصحراء.
وتخشى مصر للمرة الأولى في تاريخها من المخاطر المحتملة التي تهدد ذلك الشريان الحيوي؛ ويبدو أنها لا تدرك جيداً ما ينبغي القيام به حيال تلك التهديدات، حسب تقرير لوكالة أسوشيتدبرس الأميركية.
وتوشك إثيوبيا على الانتهاء من بناء سد النهضة العظيم، وهو أول سد يتم بناؤه على النيل الأزرق، وسوف تبدأ بعد ذلك مباشرة في ملء الخزان العملاق للسد من أجل تشغيل أكبر سد كهرومائي في إفريقيا.
نقص في المياه
وتخشى مصر أن يؤدي السد إلى خفض حصة مصر من مياه النيل وتدمير أجزاء من أراضيها الزراعية وإعاقة تنفيذ مشروعات استصلاح أراضيها الصحراوية، ومن عدم إيفاء حاجات سكانها البالغ عددهم 93 مليون نسمة والذين يعانون بالفعل من نقص كبير في المياه.
وتعتمد بلدان قليلة في العالم على نهر واحد اعتماداً كاملاً كما هو الحال في مصر. ويوفر نهر النيل أكثر من 90% من إمدادات المياه في مصر. ويعيش معظم السكان على امتداد وادي النيل. ويأتي نحو 60% من مياه النيل في مصر من إثيوبيا عن طريق النيل الأزرق.
وتحصل مصر حالياً على نصيب الأسد من مياه النيل، أي أكثر من 55 مليار متر مكعب من إجمالي 88 مليار متر من المياه التي تتدفق بالنهر سنوياً.
أفقر بلدان العالم مائياً
وبالكاد تستطيع مصر أن تعيش على المياه التي تصل إليها. وبحكم تعداد سكانها الكبير، تعد أحد أفقر البلدان من حيث حصة الفرد من المياه على مستوى العالم، حيث يبلغ نصيب الفرد 660 متراً مكعباً، ومع تضاعف تعداد السكان خلال خمسين عاماً، من المتوقع أن يصبح النقص أكثر حدة بحلول عام 2025.
وقد تؤدي أي ضربة إلى إحداث تأثير بالغ على مصر، حيث تضطلع البلاد حالياً بتنفيذ برنامج الإصلاح وتتخذ تدابير تقشف مشددة أدت إلى ارتفاع معدل التضخم من أجل إعادة بناء الاقتصاد الذي تضرر خلال سنوات الفوضى السابقة، حسب التقرير.
كيف سيملأ؟
ومما يزيد تعقيد المشكلة أنه لا توجد فكرة واضحة حول التأثير الفعلي لسد إثيوبيا، حيث تقول أديس أبابا أنها لن تضر بمصالح مصر أو السودان في مياه النيل.
والأمر يتوقف على إدارة التدفق ومدى سرعة ملء الخزان، الذي يمكن أن يستوعب 74 مليار متر مكعب من المياه. وتؤدي زيادة سرعة ملء الخزان إلى إعاقة وصول المياه.
من الناحية النظرية وبمجرد الانتهاء من ملء الخزان، سيعود تدفق المياه إلى معدلاته السابقة؛ ومع ذلك، هناك مخاوف في مصر من أن تطول سنوات ملء الخزان أو أن تقوم إثيوبيا ببناء المزيد من السدود، بما يؤدي إلى نقصان في معدلات المياه الواردة إلى مصر.
التداعيات على الزراعة
وأوضحت إحدى الدراسات التي أجراها أحد أساتذة كلية الزراعة بجامعة القاهرة أن مصر سوف تخسر 51% من أراضيها الزراعية في حالة ملء الخزان على مدار ثلاث سنوات، بينما يؤدي ملء الخزان خلال ست سنوات إلى فقدان 17% من الأراضي الزراعية. ويعد ذلك سيناريو كارثياً يؤثر تأثيراً بالغاً على الغذاء المتوفر ويؤدي إلى بطالة عشرات الآلاف من العاملين في دولة يعمل ربع سكانها في مجال الزراعة.
وتشير الدراسات الحكومية الداخلية إلى أن كل نقصان في المياه بمقدار مليار متر مكعب يؤدي إلى فقدان 200 ألف فدان من الأراضي الزراعية ويؤثر على سبل معيشة مليون مواطن، نظراً لأن كل خمسة أشخاص في المتوسط يعيشون على المحصول الناتج عن الفدان الواحد، بحسب ما ذكره أحد مسؤولي وزارة الري. وقد تحدث ذلك المسؤول بعد أن اشترط عدم ذكر اسمه لأنه لم يكن مفوضاً بمناقشة تلك الأرقام.
ويرى خبراء آخرون أن التأثير سوف يكون أقل حدة أو لا يكاد يُذكر.
ويقول هؤلاء أن مصر يمكن ألا تعاني من أي خسائر على الإطلاق إذا ما تعاونت مع إثيوبيا وتبادلت معها المعلومات خلال فترة ملء الخزان، لضمان بقاء خزان مصر الكبير الواقع على نهر النيل- بحيرة ناصر- ممتلئاً بما يكفي لسد احتياجات مصر خلال سنوات الملء.
ولسوء الحظ، لا يحدث ذلك التنسيق بين البلدين، اللذين توترت العلاقة بينهما إلى حد كبير.
وقد تم الانتهاء من نحو 60% من أعمال تشييد السد؛ ومن المزمع استكمال عمليات البناء هذا العام 2017 أو في أوائل العام المقبل.
وقد قدمت إثيوبيا معلومات قليلة حول موعد بدء ملء الخزان ومعدل ملئه. وتستمر أعمال البناء دون انتظار إعداد الدراسة المستقلة بشأن تأثير إنشاء السد وهي الدراسة التي اتفقت إثيوبيا على إجرائها مع مصر والسودان بموجب اتفاقية إعلان المبادئ لعام 2015.
وأخبر وزير المياه والري والكهرباء الإثيوبي سيليشي بيكيل الصحفيين في أديس أبابا قائلاً "وضعنا في الاعتبار التأثيرات المحتملة لبناء السد على بلدان مثل مصر والسودان". وأضاف أن خطط عملية ملء الخزان يمكن تعديلها، ولكنه لم يوضح أي تفاصيل.
نتائج الاجتماعات
وقد عقدت اللجنة الإثيوبية المصرية السودانية المشتركة 15 اجتماعاً على مدار العامين الماضيين؛ وكانت آخرها خلال شهر سبتمبر/أيلول الحالي، في محاولة لتنفيذ إعلان المبادئ.
وبموجب تلك الاتفاقية، التزمت الدول الثلاث بدراسة التأثيرات المحتملة واتفقت على وضع خطة لملء الخزان وتشغيل السد. ومع ذلك، فقد انقضى الموعد النهائي للتنفيذ ولم يبدأ تنفيذ الخطة بعد، نتيجة الاختلافات في الرأي حول تبادل المعلومات والشفافية.
وذكرت الحكومة المصرية أن هناك تعاوناً جارياً بين كلا الحكومتين.
ومع ذلك، بدأت خيبة الأمل تظهر.
ففي يونيو/حزيران 2017، تحدث وزير الخارجية المصري سامح شكري عن "المحادثات العسيرة" وشكا من تأخر إجراء الدراسة. وحذر شكري من أنه ما لم تهتم إثيوبيا بمعالجة مخاوف المصريين، سوف تبحث مصر عن مسار بديل، إلا أنه لم يوضح أي تفاصيل. وذكر مسؤول الري أن مصر تحاول حشد الضغوط الدولية على إثيوبيا.
وأقر أحد كبار مسؤولي الحكومة أن مصر لن تستطيع أن تفعل الكثير في هذا السياق، قائلاً "لا يمكننا وقف أعمال البناء، وفي كل الأحوال، سوف يضر ذلك بمصالح القاهرة".
وذكر مسؤول دبلوماسي رفيع المستوى يشارك في المفاوضات "لا يمكننا سوى الانتظار". وتحدث كلا المسؤولين بعد أن اشترطا عدم ذكر اسميهما، نظراً لأن المحادثات لا تزال قائمة.
عمل عسكري
وتحدث الزعماء المصريون من قبل عن إمكانية القيام بعمل عسكري لمنع إقامة أي سدود. وقد اتهمت إثيوبيا مصر مؤخراً بدعم المتمردين الذين حاولوا تخريب السد؛ وهناك اتهامات أيضاً بقيام القاهرة بإقامة قاعدة عسكرية في إريتريا لتنفيذ اعتداءاتها، وكلها مزاعم أنكرتها كل من مصر وإثيوبيا.
ويبدو الخيار العسكري أقل احتمالاً بعد إبرام اتفاق 2015 والذي يقضي بالتعاون بين الحكومتين.
ولا يكاد القانون الدولي ينص على أي حلول لهذه الأزمة، رغم أن المواثيق الدولية تنص على مبادئ لإدارة الأنهار ووجوب توزيع المياه والمشاركة بها بصورة عادلة بين البلدان وعدم إقامة أي مشروعات على الأنهار من شأنها أن تضر بمصالح الدول الأخرى.
ومع ذلك، فقد تم ترك التفاصيل لإدارة البلدان الواقعة على ضفاف الأنهار، حيث ألزم اتفاق 2015 مصر بتسوية الخلافات أثناء المفاوضات والسعي وراء الوساطة الدولية، إلا أنه يتعين على كافة الدول الموافقة على ما يتم التوصل إليه.
حلم إثيوبيا
ويعد السد البالغ تكلفته خمسة مليارات دولار بمثابة تحقيق للحلم الإثيوبي. وتعتبر البنية التحتية لهذه البلاد الأقل تطوراً على المستوى العالمي، حيث تعاني الأغلبية العظمى من تعداد سكانها البالغ 95 مليون نسمة من نقص الكهرباء. ومن المزمع أن يولد السد أكثر من 6400 ميجاوات من الكهرباء لدعم إنتاج إثيوبيا الحالي وقدراتها البالغة 4000 ميجاوات.
وكلما ازدادت فترة ملء الخزان، تأخرت المنافع التي ستعود على إثيوبيا، بما يعني تراجع معدلات النمو لديها.
لن تتضرر كثيراً
وذكر كينيث ستريزبك، أستاذ هندسة واقتصاديات الموارد المائية بجامعة كولورادو في بولدر "إذا ما تم تنسيق التعاون بين جميع الأطراف وكانت هناك ثقة متبادلة، فمن الأرجح أن يستفيد الجميع".
ويرى أنه في أسوأ السيناريوهات، لن يتضرر اقتصاد مصر إلى حد كبير، حسب قوله.
وقال "ولكنك سوف تؤذي المزارعين إذا ما خفضت قوة تدفق المياه". ويتم تخصيص أكثر من 80% من حصة مصر من المياه في مجال الزراعة.
إهدار مصري
ولفت تقرير أسوشيتدبرس إلى أن مصر تستغل مياهها بصورة غير فعالة، ويتم فقدان نحو ثلث مياه الشرب البالغ حجمها تسعة مليارات متر مكعب كل عام جراء شبكات توزيع المياه القديمة والتالفة، وفقاً للبيانات الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء.
ويروي المزارعون حقولهم بالغمر، ما يزيد من فقدان المياه. وقد رفضت الحكومة إدخال نظم الري بالتنقيط الأكثر فعالية بسبب ارتفاع التكلفة.
هيمنة
ويتهم المصريون إثيوبيا بالتصرف دون مشاورة الحكومة المصرية، حسب التقرير.
وقال هاني رسلان، خبير الشؤون الإفريقية بالقاهرة "تريد إثيوبيا فرض السيطرة الكاملة على النيل. ولا تريد الالتزام بأي اتفاقيات".
وأضاف "مصر تترقب، فحين تبدأ عملية ملء الخزان، ستكون هناك مخاطر فادحة".
ومع ذلك، يرى بعض المنتقدين أن مصر لا ينبغي أن تلوم إلا نفسها جراء عدم الإنصاف الذي كانت تمارسه في الماضي، حسب التقرير.
كانت مصر والسودان، اللتان تحظيان بحصة كبرى من مياه النيل بموجب الاتفاقيات السابقة، ترفضان ضغوط البلدان الأخرى للحصول على توزيع عادل لمياه النيل.
ففي عام 1999، أقرت البلدان مبادرة حوض النيل بشأن الاستفادة من مياه النيل. ومع ذلك، انسحبت مصر والسودان من المحادثات وطالبتا بإقرار حقوقهما التاريخية في مياه النيل.
وأدت المقاطعة إلى نتائج عكسية. وقامت البلدان الأخرى بتنفيذ المبادرة وأقرت الاتفاقية الإطارية التعاونية عام 2010 وأيدت إقامة سد إثيوبيا. وظلت مصر والسودان بعيدتين عن المشاركة.
غطرسة: فهل تخلى السيسي عن حقوق بلاده التاريخية؟
وتبنى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي توجهاً جديداً بعد تولي الرئاسة، حيث قام بزيارة السودان وإثيوبيا ودول المنبع وتحدث عن إمكانية التوصل إلى حلول دبلوماسية.
وبعد ذلك، وقعت مصر إعلان المبادئ عام 2015. ولم تذكر مصر للمرة الأولى شيئاً عن حصتها السابقة في مياه النيل. وقد ذكر المنتقدون أن مصر قد تبنت توجهاً معاكساً وتخلت عن حقوقها التاريخية، وفقاً لتقرير الوكالة الأميركية.
وذكر خبير المياه السوداني سلمان سلمان أن مصر تجاهلت الفرص السابقة للتعاون مع إثيوبيا. وأضاف "هناك غطرسة من جانب مصر وشعور بأن هذا النهر نهرها ولا يستطيع أحد المساس به"، حسب قوله.
وأصبحت مصر الآن منعزلة وإثيوبيا ترفض التعاون، على غرار ما فعلته مصر في الماضي.
وقال سلمان "لم تعد مصر القوة المهيمنة على امتداد نهر النيل، بل حلت إثيوبيا محلها".