المزار القريب لا يشفي الغليل

صعدنا إلى السيارة وكان صوت الموسيقى القادم من الراديو واضحاً، ويرافق تلك الموسيقى حركات السائق المتفاعلة معها، شعرت بأن اللحن معروف، وكأنه يشبه إحدى الأغاني العربية، ولكنني اعتقدت أنه أحد الألحان التركية التي اعتاد المطربون في وطننا العربي سرقتها من الأتراك.

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/28 الساعة 02:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/28 الساعة 02:00 بتوقيت غرينتش

انتظرت سيارة أجرة أمام سكني في مدينة إسطنبول، وكنت متجهاً برفقة زوجتي وطفلي إلى أحد المجمعات التجارية، لم يدم انتظارنا طويلاً؛ حيث جاءت سيارة أجرة خمرية اللون، ومدينة إسطنبول تمتلك لونين لسيارات التاكسي؛ اللون الأصفر واللون الخمري الغامق.

صعدنا إلى السيارة وكان صوت الموسيقى القادم من الراديو واضحاً، ويرافق تلك الموسيقى حركات السائق المتفاعلة معها، شعرت بأن اللحن معروف، وكأنه يشبه إحدى الأغاني العربية، ولكنني اعتقدت أنه أحد الألحان التركية التي اعتاد المطربون في وطننا العربي سرقتها من الأتراك.

ولكن الموسيقى تحولت إلى غناء مطربة عربية لم أسمع صوتها من قبل، وانتظرت لربما تتحول الأغنية إلى اللغة التركية، ولكنها استمرت تغني باللغة العربية، قلت لنفسي: ربما يكون السائق من المناطق الحدودية المحاذية لسوريا، وأقاربه عرب، أو هناك علاقات زواج تربط عائلته بعائلة سورية، فسألته بلغتي التركية البسيطة: هل تتكلم العربية؟ فأجاب بالنفي، وعاد ليندمج مع الأغنية مع اقترابنا من وجهتنا.

سألته مجدداً عن اسم الإذاعة، فلم يعرفها واكتفى بقراءة التردد على شاشة الراديو الصغيرة، وكان التردد 106.60 على موجة FM، وصلنا إلى وجهتنا، وبدأت أحلل في رأسي لماذا يستمع هذا التركي إلى لغة لا يفهمها واللحن فيها عادي جداً وليس صاخباً أو لافتاً؟ وعدت بذاكرتي إلى أواخر التسعينات وبداية الألفية الجديدة، حينها كنت شاباً صغيراً، وكانت موجة الأغاني الأجنبية باختلاف واردها إن كان إنكليزياً أو فرنسياً، وأحياناً روسياً، كانت سلاحاً نفاخر فيه بأننا نتحضر ونستمع للأغاني (الراقية)، ولكننا لم نعلم ماذا يعني محتواها.

يقول المثل المحلي: (المزار القريب لا يشفي الغليل).
هناك أزمة حقيقية بالنظرة إلى المجتمعات المتقدمة، إن كان من خلال أغانيها أو صناعة سياراتها أو حتى علاقاتها الجسدية والعاطفية، وأصبح نموذج المجتمعات الأوروبية والأميركية مقياساً يتم على أساسه قياس تطور الشخص وصعوده على سلم الرقي، على سبيل المثال إن أكل شخص بيديه مباشرة سيكون أحد الموجودين بالمرصاد، ويقول له: كل كما يفعل الأوروبيون.

للأسف الشديد نسي الكثيرون أن القاهرة كانت تعتبر نموذجاً بالحضارة والرقي عام 1925، وكان إن فعل الباريسيون شارعاً جميلاً، قالوا: لقد فعلنا شارعاً يشبه شوارع القاهرة.

غرقنا في سفاسف الأمور واختلفنا بالدين والشرع وتطبيق الحد، وبقينا نعظم خلافاتنا الدينية والمذهبية، كَبرت كراهيتنا لبعضنا، وخفت ضوؤنا، وانعدمت إنجازاتنا، فأصبح الأوروبيون يلقبون من يتصرف بعمل غير لائق بأنه عربي.

كل هذا الحوار دار في رأسي وأنا أبتعد قليلاً عن سائق التاكسي الذي رفع صوت الأغنية العربية، واستدار للطريق المقابل وغادر تاركاً سؤالاً لم أجد الإجابة عنه حتى اللحظة، فهل من إجابة عند أحدكم؟

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد