بينما يبرر الأكراد سعيهم للانفصال عن العراق بالمظلومية التي تعرضوا لها تاريخيا في هذا البلد ذي الغالبية العربية، فإنهم يبدو أنهم قد يكررون هذه المظالم بحق الأقليات بإقليم كردستان بعد أن أصبحت لهم اليد العليا.
فقد أفادت تقارير متعددة عن مقاطعة كثير من أعضاء الأقليات للاستفتاء، ولكن الأخطر ورود أنباء عن إجبار لأفراد من الأقليات على التصويت وكذلك تجاهل إرادة سكان مناطق سيطرت عليها قوات الأكراد خارج المحافظات الكردية الثلاث.
لماذا عزفت الأقليات عن المشاركة في الاستفتاء ، وهل تكون إحدى نتائج الاستفتاء تخلي كردستان العراق عن شهرتها كجنة للتنوع، وملاذ آمن للأقليات؟.
حسب تقرير لصحيفة " La croix " الفرنسية ، فإنه" لم يبادر عدد كبير من أبناء الطائفة المسيحية واليزيدية بالمشاركة في التصويت بشأن استفتاء استقلال إقليم كردستان العراق الذي عقد يوم الإثنين 25 من سبتمبر/أيلول 2017.
ورغم أنه، تم توفير كل الأساسيات المكونة لأي مكتب اقتراع، في مدرسة "أكيتو" في عنكاوا، الحي المسيحي في مدينة أربيل، حيث تم تثبيت حجرات تصويت من الورق المقوى، وكراس لتسجيل أسماء الناخبين وحبر حتى يضع الناخب إبهامه، وذلك على اعتباره دليلاً على أنه قد أدلى بصوته.
ولكن المفاجأة كل ذلك من دون قوائم انتخابية".
ويقول منال ماهتي، وهو مسيحي نازح من مدينة الموصل هرب من داعش منذ ثلاث سنوات، الذي يبلغ من العمر 45 سنة: "لقد استظهرت ببطاقة الهوية العراقية وتصريح إقامتي في إقليم كردستان، قبل أن يقوموا بوضع إصبعي في الحبر، من ثم وقعت، هذا كل شيء".
المبرر الذي أعطي لعدم تصويت ماهتي وأقرانه هو إن إقليم كردستان لم يجد الوقت الكافي لتجديد قوائمه الانتخابية نظراً لأن عملية الاستعداد للاستفتاء جرت خلال ثلاثة أشهر فقط، وتحديداً منذ أن تم الإعلان عنه رسمياً في 7 من حزيران /يونيو 2017.
أعلام تثير الدهشة في عاصمة كردستان
كان الأكراد يأملون في حشد تأييد مختلف الأقليات التي تقطن في المناطق التي يسيطرون عليها، ولكن يبدو أن النتيجة مخالفة لتوقعاتهم.
وفي هذا السياق يقول شاب من طائفة الكلدان، الذي يدير أحد فروع الحزب الديمقراطي الكردستاني التابع لمسعود بارزاني، الذي يشغل منصب رئيس إقليم كردستان العراق ، إن "الرئيس بارزاني طمأن ممثلي الأقليات أنهم لن يكونوا مواطنين من الدرجة الثانية".
على الرغم من هذه التطمينات، فضل العديد من أبناء الطائفة المسيحية عدم المشاركة في عملية التصويت. وفي بلدة ألقوش، الواقعة على بعد 130 كيلومتراً شمال غرب أربيل، قام السكان بتعليق الأعلام العراقية في الشوارع، حسب تقرير الصحيفة الفرنسية.
وفي هذا السياق، ذكر الناشط في الحركة الديمقراطية الآشورية، آثارا كادو، الذي لا يزال يراهن على بغداد، "نحن لسنا جزءاً من كردستان العراق، فلماذا ندلي بأصواتنا إذا؟".
إجبار على التصويت
في مدينة ألقوش، انطلقت موجة التحريض ضد الاستفتاء في وقت مبكر، خلال هذه الصيف، تزامناً مع إقالة عمدة مدينة أربيل. وفي هذا الصدد، أورد آثارا كادو أن "الأشخاص الذين يعملون في كردستان مجبرون على التصويت، لأنهم إن لم يشاركوا سيفقدون وظائفهم".
في حقيقة الأمر، يبدو أن باقي الأقليات تشكك في مصداقية هذا الاستفتاء، حسب الصحيفة الفرنسية.
المشكلة الكبرى
ففي كركوك، ظلت أبواب المنازل الواقعة في الحي التركماني مغلقة في الوقت الذي امتلأت فيه الشوارع الكردية بأهازيج الفرح.
وأعلنت السلطات في كركوك حظراً للتجول قبل ساعة ونصف من غلق مراكز الاقتراع في استفتاء في الوقت الذي كان فيه الأكراد المبتهجين يحتفلون بالاستفتاء الأمر الذي أثار مخاوف من اندلاع صراع عرقي في محافظة كركوك المُقسّمة بين الأكراد، والعرب والتركمان، والمسيحيين.
وطالبت بغداد مراراً حكومة إقليم كردستان بالانسحاب من المنطقة منذ أن فقدت سيطرتها الفعلية على كركوك في عام 2014 ، لكن محافظة أربيل رفضت بل ألمح القادة الأكراد إلى احتمالية اللجوء إلى النزاع المسلح.
وبالنظر إلى أهمية المدينة والثروة النفطية في المنطقة، لن يتخلى أي جانب، على الأرجح، عن المطالبة بإخضاع المدينة تحت سيطرته في أي وقتٍ قريب، حسب تقرير لموقع "ميدل إيست أي" البريطاني.
اليزيديون يهابون التصويت
وأدت الطريقة المتبعة في إجراء الاستفتاء إلى مضاعفة الإحساس بالتوتر في صفوف الطائفة اليزيدية، الأقلية التي عاشت أبشع أشكال الاضطهاد إبان سيطرة تنظيم داعش على المناطق التي يعيشون فيها في سنة 2014.
وفي هذا السياق، نقلت صحيفة La croix " الفرنسية عن المدير التنفيذي لمنظمة "يازدا" غير الحكومية المختصة في النظر في قضايا الطائفة اليزيدية، جمال شومر، أن "حوالي 2000 أسرة غادرت المخيمات مطلع الأسبوع الماضي حتى تتجنب إجبارها على التصويت".
وأضاف شومر أنه "في سنجار (مدينة يزيدية)، لم يشارك في التصويت سوى أولئك الذين يعيشون في المناطق التي يديرها الحزب الديمقراطي الكردستاني والذين يعملون لصالحه".
من جنة الأقليات إلى مظلمة جديدة
وأصبح واقع بناء دولة كردية في شمال العراق أكثر تعقيداً بسبب التنوُّع الديني والعرقي الهائل في المنطقة الذي ازداد نتيجة ضم الإقليم أراض جديدة خلال الحرب على داعش.
فحسب تقرير موقع "ميدل إيست أي" فقد تمكنت قوات البيشمركة الكردية من انتزاع مساحات ضخمة من الأراضي منذ عام 2014، ما أدى إلى اتساع رقعة الأراضي الخاضعة لسيطرة حكومة إقليم كردستان بحوالي 50%.
وتضم المناطق التي يسيطر عليها الأكراد سواء، أراضي إقليم كردستان الأصلية أو الأراضي التي تم ضمها ، غالبية السكان المسيحيين في العراق، وكل المجتمع الأيزيدي تقريباً، والشيعة والسُنّة التركمان، والشبك، والكاكائيين، بالإضافة إلى أتباع الديانة الزرادشتية، وعدد قليل من السكان من أتباع ديانة الصابئية المندائية، وأتباع الديانة البهائية.
وكانت هذه الأقليات تسكن داخل الحدود "الرسمية" لإقليم كردستان العراق، جزئياً بسبب التراث الثقافي الغني للمنطقة وأيضاً بسبب الشهرة، التي اكتسبتها المنطقة على مدى طويل، بتسامحها تجاه الأقليات.
وارتفعت حجم الهجرة الداخلية إلى إقليم كردستان العراق منذ عام 2003 بعد الغزو الأميركي للعراق، وتسارعت جراء حملات تنظيم (داعش) ليصبح إقليم كردستان العراق الوجهة، التي يختارها المدنيون العراقيون هرباً من التطرف.
فخ المناطق المتنازع عليها
وخلال القتال ضد تنظيم داعش، تمكنت حكومة إقليم كردستان العراق من بسط سيطرتها الفعلية على مساحات كبيرة مما يسمى بـ "المناطق المتنازع عليها" في العراق.
وهذه المناطق عبارة عن أراضٍ، تدعي كل من حكومة إقليم كردستان والحكومة الفيدرالية العراقية ملكيتها، وتشمل مدينة سنجار، ومناطق سهل نينوى التابع لمحافظة نينوى، وأجزاءً من محافظتي صلاح الدين، وديالى، ومدينة ومحافظة كركوك.
وتتسم المناطق المُتنازع عليها بتنوع فئاتها السكانية، إذ تُعد سهول نينوى موطناً لعددٍ كبير من المسيحيين، والشبك، والإيزيديين، فيما تُعد منطقة سنجار موطناً كبيراً للإيزيديين .
وفي حالة ضم هذه المناطق إلى إقليم كردستان، ستكون السلطات الكردية مسؤولة عن إدارة شؤون سكان يتسمون بقدرٍ أكبر من التعدد الثقافي (وليس مجرد سكان أكراد متجانسين).
التسامح يذوي
وبينما كان إقليم كردستان ملجأً للأقليات التي تواجه مخاطر في مناطق أخرى داخل العراق، فإن التغيير السريع في التركيبة السكانية ربما يُهدِّد استمرار سياسات التسامح التي يتسم بها الإقليم، حسب تقرير "ميدل إيست أي".
فقد ظهرت تقارير تُشير إلى لجوء السُلطات الكردية إلى ممارسات تستهدف الأقليات، فضلاً عن أن جماعات عرقية محددة تواجه صعوبة بالفعل للعيش تحت الحكم الكردي.
العرب السنة
ويعاني العرب السُنَّة الذين يعيشون في إقليم كردستان العراق، وهم يُشكِّلون نسبةً كبيرة من الأشخاص النازحين داخل البلاد، من التمييز ضدهم.
وذكرت تقارير أنهم قد يتعرَّضون، على الأرجح، لفرض قيودٍ على حرية حركتهم أكثر من الجماعات الأخرى. وهناك مزاعم أخرى تفيد بتعرُّض العرب السُنَّة داخل الإقليم لمضايقات من قبل مسؤولين وبعض المدنيين الأكراد بالإضافة إلى التمييز ضدهم في التوظيف وربما كان هذا بسبب ربطهم بين العرب السُنّة وتنظيم داعش.
منع من العودة
وهناك تقارير عديدة تُشير إلى منع السلطات الكردية للسكان النازحين من الأقليات من العودة إلى بيوتهم مجدداً بعد انتهاء المعارك، رغم السماح للأكراد بالعودة.
وتُنكر حكومة إقليم كردستان ارتكابها أية تجاوزات وتجادل بحجج متعددة بأن هذه الحوادث هي إجراءات أمنية احترازية أو أنها نتيجة لارتكاب الأشخاص النازحين لأفعالٍ غير قانونية. غير أن هناك مزاعم منتشرة تفيد بلجوء القوات الكردية إلى إجبار السكان على النزوح وتدمير ممتلكاتهم.
وفي المناطق التي ترفض مجتمعات الأقلية بها الإذعان لحكم حكومة إقليم كردستان (أو في المناطق التي يسيطر عليها الأحزاب الكردية السياسية)، يُجبَر القادة المحليون على ترك مناصبهم ويحل محلهم موالون للحزب (والذين يكونون غالباً من عرقٍ مختلف)، مثلما حدث مع المجتمعات المسيحية في سهول نينوى خلال الشهر الماضي أغسطس/آب 2017.
حصار لليزيديين وصراع مع التركمان
في مدينة سنجار، نفَّذَت القوات التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني حصاراً حول المنطقة ذات الأغلبية الأيزيدية، لتمنع الإمدادات الأساسية من الدخول والخروج منها. ورُحِّلَت عائلاتٌ بأكملها انتقاماً من دعم أفراد بها لحركاتٍٍ أيزيدية تعارض سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني على سنجار.
وتُعد مدينة سنجار مركزاً لنزاعٍ سياسي حزبي متعدد الأطراف بين القوات الكردية المتنوعة التي تتنافس مع بعضها البعض، بمن فيهم حزب العمال الكردستاني والميليشيات التابعة للطائفة الأيزيدية.
وتفاقم الصراع كذلك داخل مدينة طوزخورماتو خلال العام الماضي، 2016، وهي مدينةٌ أغلبية سكانها من الشيعة التركمان وتُسيطر قوات البشمركة الكردية على أجزاءٍ منها. وتسببت الصدامات بين القوات الكردية والميليشيات الشيعية في سقوط قتلى على الجانبين.
ويختتم موقع "ميدل إيست أي" تقريره بالتحذير من أن الفشل في تحقيق هذا لا يهدِّد فقط باندلاع مزيدٍ من الصراعات، بل يهدد أيضاً وجود بقايا التراث الثقافي المتنوع للعراق على المدى الطويل. لا يجب إسكات أصوات الأقليات.