كبرنا يا صديق للحدّ الذّي تغيّرت فيه قناعاتنا ونظرتنا للأمور كثيراً، للحدّ الذّي اختلفت فيه مفاهيمنا عن السّابق، أصبحنا أكثر عُمقاً وفهماً لمجريات الحياة، حتّى المشاعر والمبادئ والأخلاق لم تسلم من نحت الزّمن.
لا الذّنب ذنبك ولا ذنبي، هي أمور تجري ومُقدّر لها أن تكون ومن ثَمّ تتبدّل، لكن يظلّ ذلك الطبع الأصيل باقٍ كما هو، متأصّل الجذور وعميق في نفس كل ثابت يؤمن به، ألا وهو المنح.
فالمنح لذّة، إذا ذاقها المرء لن يقدر على تركها، والمنح دوماً أعظم وأجلّ شأناً من الأخذ لما فيه من الرّفعة وعلوّ الشّأن، والمنح مراتب ودرجات، وأعظمهم مرتبة أولئك الذّين اعتادوا دوماً على العطاء دون مقابل، فهناك أشياء نمنحها؛ لأنّنا لم نعد بحاجة إليها أو طُلِبت منّا، وأخرى نمنحها إرضاءً للخالق، وكي نسعد بها غيرنا، وأشياء نمنحها كي نوهب غيرها، فالمال منح، والجهد منح، والوقت منح، والتقدير منح، والإحسان منح.
الثّقة، عرّفها علم الاجتماع بأنّها علاقة اعتماد بين اثنين، وهي رمز وقيمة أخلاقيّة وإيفاء بالوعود.
أمّا أنا، فأعرّفها بأنّها تلك القدرة العجيبة التي تملؤنا وتدفعنا أن نَهِب أرواحنا ومشاعرنا وكلّ ما نملك ونضعها على المحكّ دون أن نتردّد أو نحسب العواقب، ولا يجول بخاطرنا أن نُخذل فيها وإلا كان لزاماً ألّا نثق مطلقاً من البداية.
فالحبّ ثقة، ومنح الثّقة فيه يساهم كثيراً في توطيد العلاقة، ويخفّف من احتمالية حدوث الخيانة، فخيانة الثّقة أصعب من خيانة الشّخص، والخائن لا يخون؛ لأنّك تثق فيه، ولكن لأنّه بشر ومن الوارد أن يخطئ.
والبوح بالأسرار ثقة، ولا يكون إلّا لمن كان جديراً بها، فالبعض تودِعه أسرارك كأنّما أودعتها بئراً عميقة والبعض الآخر عند الخصومة يَفجُر ولا يُبقي على سرٍّ ولا خاطر.
الصّداقة التّي لم تُبنَ يوماً على المصلحة ثقة، وتكفيك ما بقي من عمرك أن تستند عليها ولا حاجة لك بغيرها.
أن تخاطر بروحك فداءً ﻷحدهم يوماً ثقة، فذلك لأنّك تثق أن لو كانت الأدوار متبادلة لن يتردّد لحظة في أن يكون فداءً لك.
يُحكى أنّ جنديّاً قال لرئيسه: "صديقي لم يعد من ساحة المعركة، سيّدي أطلب منكم السماح لي بالذّهاب والبحث عنه".فردَّ الرئيس: "الإذن مرفوض"، لا أريدك أن تخاطر بحياتك من أجل رجل من المحتمل أنّه قد مات". ذهب الجندي دون أن يعطي أهميّة لرفض رئيسه، وبعد ساعة عاد وهو مصاب بجرحٍ مميت حاملاً جثّة صديقه.
كان الرئيس معتزاً بنفسه فقال: "لقد قلت لك أنّه قد مات! قل لي أكان يستحقّ منك كل هذه المخاطرة للعثور على جثّة؟ أجاب الجنديّ محتضراً: بكل تأكيد سيدي! عندما وجدته كان لا يزال حيّاً واستطاع أن يقول لي: "كنت واثقاً بأنّك ستأتي"!
أن تستأمن غيرك على عرضك ومالك ثقة، فلا نَملك أغلى من العِرض ولا نأتمن عليه إلّا من رجّحته كِفّتهُ لدينا، فهو ليس بالأمر الهيّن أن نلقيه في يد أيّ عابر يمرّ بنا.
وأذكر يوماً قصدتُ أحدهم في قضاء حاجة لي وأعطيته مبلغاً من المال ولم يكن بيننا من قبل تعامل مالي، فسألني قائلاً: "ألا تخاف أن آخذ هذا المال ولا أقضي لك الأمر؟" فأجبته، حزني على فقد هذا المال حينها لا يضاهي أبداً حزني على خسارة ثقتي بك! فالمال مهما كثر قادرون على استرجاعه وتعويضه يوماً، لكن الثّقة إن خُذِلت لا شيء يجبرها ويعيدها كما كانت مرّة أخرى.
ومهما اجتهدت في سرد القصص الملهمة عن المعنى الحقيقي للثقة، فلن أجد أروع وأصدق ممّا جاء في الكتاب والسنّة، وممّا جرى بين نبيّنا الكريم صلى الله عليه وسلم وابن عمّه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يوم الهجرة، ساعة وثق في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضحّى بروحه فداءً له ولدعوته التّي آمن بها دون أن يرتدّ طرفه.
ويقول "فيودور دوستويفسكي": إنّ هناك أناساً يبلغون من جمال الطّبائع من تلقاء أنفسهم، ويبلغ ما وهب لهم الله من مزايا عظيمة أنّ المرء لا يتصوّر أن يفسدوا في يوم من الأيّام، فهو مطمئنّ عليهم كلّ الاطمئنان واثق منهم كلّ الثّقة.
وعلى قدر التفطّن والكياسة إلّا أنّها ليست معياراً دائماً على تجنّب الخذلان، فالأمر لا يخلو أحياناً من سوء الاختيار ولا بدّ أن نتعرّض لاختبارات قاسية نتيجة حُسن النيّة في منح الثقة لمن لا يستحقّ، ويظلّ الرّبح الأكبر خسارةً من لا يستحقّون ثقتنا.
إلى مَن خذلونا يوماً، إلى أولئك الذّين يعضّون أناملهم من النّدم، إلى الذّين خسارتهم فينا لا تضاهيها خسارة، إلى الذّين يتهافتون على رغبات الحياة ونزواتها واضعين كلّ ما يملكون وكل ما منحناهم من ثقة تحت تصرّفها، ألا تعلمون أنّ هناك أعزّ من رغباتكم تلك! فالثّقة إن كانت لا تعني لكم شيئاً فلأحدهم تعني أشياء بل كُلّ شيء! فرفقاً بالقلوب والمشاعر، رفقاً بأناس لم يملكوا أغلى منها ليمنحوكم إيّاها، وإن كنتم يوماً عازمين على خذلانهم فيها، فحُباً في الله اتركوهم قبل أن تمزّقوهم! ولتبقَ وصيّة نبيّنا صلى الله عليه وسلم الخالدة حاضرة: "لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْن".
– تم نشر هذه التدوينة في موقع مدونات الجزيرة
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.