أيّ سحر تمتلكه الأم؟ ما هي تلك التعويذة التي تترنم بها طالما هي على قيد الحياة؟ تبث داخل أبنائها قوة خفية حتى تظنها يداً تمسك روحك كلما تعثرت، فتقف مجدداً صلباً.. قوياً.. لا يهزمك شيء.. ولا يعنيك مَن رحل ما دام هناك مَن يهمس في أذنك كل صباح (صباح الخير يا ولدي).
ربما فارقتها باكراً جداً؛ لأختبر الكثير بعد رحيلها.. صدمة الفراق تبقى تلك الصدمة الأولى بشدتها، لا أصدق أن شيئاً قد يعوّض ذلك الفقدان، ما زلت أذكر عندما أغمضت عينيها للمرة الأخيرة مودعةً حتى في تلك اللحظة بقمة العطاء، تهب لك صبراً على الفراق، تهب لك كل الحياة، تهب لك الروح، تلوح لك بصمت حزين لا تحزن يا صغيري فكلنا راحلون.. كلنا عائدون.. لا تحزن فتلك الدمعة التي تسقط من عينيك مودعة توجعني.. ابتسم فقد وهبتك الحياة.. قصيرة هي الحياة مع الأم.. مريحة.. لا تشعرك بعبثية العمر وفوضاه.. لا أذكر صغيراً أو كبيراً لم يردد عبارة (أمي لا أحد يشبهها) (ومَن مثل أمي)، نعم قد صدقت، فالأم هي تلك النعمة التي ينعمها الله عليك، تدفئ صقيع روحك، تهبك دفء الحب، تهب أيامك ألوان قوس قزح، وكأنها تمتلك رداء سحرياً من نوع خاص يقيك صقيع الحزن وأوجاع الحياة، ويعطيك حرارة خاصة بك وحدك تعوضك عن أي فقدان.
بفقدانها تفقد شيئاً مجهولاً، تفقد تلك الطاقة الخفية التي كانت تمدك بها، تفقد قوتك وثقتك وعزمك، تفقد ذلك الرداء فتبدأ العواصف، أنت لا تدرك أن شيئاً داخلك انطفأ، وتلك الشعلة التي كانت داخلك فقدت حواسها تجاهك.
واليوم وأنا أُم للمرة الأولى.. بدأت أتذوق معنى العطاء اللامحدود، بدأت أستوعب لماذا كانت تنام أمي باكراً، بدأت أتذوق كل التغيير الذي يحدث، أنا مَن كانت تمتلك طقوسها الخاصة بالنوم، أصبحت أغفو متى سنحت لي الفرصة بذلك، وأستيقظ في اللحظة التي يراها طفلي مناسبة، قد يستيقظ وأنا في قمة الإرهاق وهو في قمة نشاطه واستمتاعه بالاكتشاف والبحث عن الأدوات الخفية التي تعينه على الأذى، فأجد نفسي أستجمع تلك القوة المجهولة المصدر ربما أستمدها من ولدي لأحقق طموحاته في الدخول للثلاجة محاولةً جاهدة ألا أستمع لدموعه الكاذبة.. نعم الأم تستسلم لدموع ولدها.. تلك الدموع نفسها التي كنت أستخدمها مع أمي لأحصل على مبتغاي وكنت أظن أنها لم تكتشف أنها دموع كاذبة.. تماماً كاكتشافي لدموع طفلي المخادعة.. هل كان عليَّ أن أختبر مشاعر الأمومة؛ لأكتشف (أمي)؟
في السنة الثانية من عمر ولدي أصبحت أمتلك مجموعة من التنازلات، أصبحت أستوعب أن تلك الحرب التي كنت أخوضها مع نفسي بأنني لست آلة أنام متى شاء طفلي وأستيقظ متى أراد أمست سراباً.
تعلمت تماماً أن لي عملاً لا يقل أهمية وفائدة عن أي عمل، وأن هذه الأيام ستمضي بصعوبة غربتها.
أدركت تماماً أن هذا المخلوق الصغير الذي لم يكن يتجاوز حجم كفيك مجتمعين معاً قادر على إبهارك بقوته وصبره على الحصول على مبتغاه في الاحتضان.
هذا المخلوق الضعيف أقوى منك وأعند منك وأذكى منك، مثابر، متحدّ ليبلغ مبتغاه.
يعطيك دروساً في الصبر.. أذكر اليوم كيف جعلني أنزله عن النافذة أكثر من عشرين مرة، وفي كل مرة أقول سيمل الآن ولن يعاود الكرة، وفي آخر مرة كنت قد شارفت على التيقن بأنني نجحت في جعل وجهته نافذة أخرى ليبدأ من جديد بطاقة أخرى.
كم أنت عظيمة يا أمي! الآن بدأت أدرك أن تلك البسمة التي كانت تطالبني بها أن تبقى على شفتي ما هي إلا طاقة تستمد منها قوتها.. ففي اللحظة التي يبتسم صغيري راكضاً نحوي ليحضنني تندفع باندفاعه قوة خفية تتوغل داخلي تبث بي الحياة من جديد وكأني الآن وُلدت.
كم أتمنى لو أنها ما زالت على قيد الحياة فاتحة لي ذراعيها لأركض مسرعة ليس من أجلي إنما كي أبث فيها ما تذوقته من طفلي..
هذه التذوقات الأولى للحياة غالباً ما يكون لها مذاق مختلف تتمنى أن لا ينتهي ولكنها مرحلة ستنتهي حتماً.
إلى كل أم تتذوق الأمومة للمرة الأولى، اعلمي أن طفلك هدية بل زائر صغير ضعيف تعلمي منه كل شيء صبره.. تخطيطه.. نظرته وهو يتمعن في تفاصيل وجهك ليستعد للخطوة التالية أو يحسمها.. تيقني أن هذه اللحظات لن تتكرر.. سيفارقك غداً لمدرسته.. وستصبح دائرة اهتماماته أوسع منك وخارج نطاقك.. تماماً كما حصل عندما اتسعت دائرة اهتمامك خارج حضن والدتك متجاهلةً كل هذه المراحل التي عاشتها وتذوقتها للمرة الأولى والتي ستتذوقينها للمرة الأولى أيضاً.
وداعاً أمي يا لحن حياة لا يمكن أن يتكرر فمَن مثل أمي؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.