نظرة نقدية لتنميط مستقبل طلبة الطب في تونس
يعشق الشعب التونسي ربط المستقبل بالمناظرات الوطنية والشهائد العليا، وذلك امتداداً لعقلية زرعت فيه بُعيد الاستقلال مفادها أن التعليم مصعد اجتماعي.
إلا أن التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها البلاد كانت -وما زالت- تستوجب تطويراً لعقلية تجاوزتها الأحداث، وصارت في أغلب الأحيان ضارة بالفرد والمجتمع، فنرى مثلاً أصحاب الشهائد العليا يعانون البطالة في وقت تفتقر فيه البلاد إلى نوع آخر من اليد العاملة لا يكاد يوفرها "التكوين المهني".
هذه العقلية كتاب قد يطول تدارسه، إنما أخصص هذه السطور لأحد أبوابه المتعلق بميدان الأطباء.
تبدأ المعضلة من البكالوريا، فيختار المئات من التلاميذ المتفوقين الطب لا لشيء إلا لمستقبل زاهر موعود، أو لمكانة اجتماعية منشودة، أو كأخف الأضرار، دون أدنى مراعاة لميولهم وطموحاتهم.
تستمر الأخطاء معهم كطلبة عند إنهاء سنوات الدراسة وبلوغ مناظرة الإقامة (التخصص) في الطب.
عندها يشارك المئات من الطلبة في المناظرة، فينجح بعضهم، ويفشل أغلبهم، ثم يختار الناجحون اختصاصاً حسب ترتيبهم، فتجد أغلبهم يختارون أخف الأضرار مادياً وبدنياً لمواصلة المشوار.
ويختار أغلب الذين لم ينجحوا إعادة الكرة مرة أو مرات، فينجح بعضهم ويتم إعلان الذين لم ينجحوا عندما ييأسون من التخصص أطباء فاشلين… عفواً عامين (أو حسب التسمية الجديدة: أطباء عائلة)، قد يختارون الهجرة إلى السنغال أو ألمانيا من أجل التخصص.
لسنوات طوال تم للأسف التحقير من الطب العام، يستعبد الطالب لسنتين كعامل بالمستشفيات التونسية، أو ما يسمى طبيباً متربصاً داخلياً، ثم يتحصل على شهادة لممارسة الطب لعله لم يمارسه فعلياً من قبل، فيتوجه إلى عيادته/مستوصفه/… لينجح أو لينتهي به الأمر إلى السمسرة والتطبيب الاعتباطي وبيع الشهائد الطبية.
وقد يكون الخوف من ممارسة الطب مباشرة بعد التربص الداخلي هو الذي يجعل الكثيرين يختارون إعادة مناظرة التخصص مرات ومرات.
منذ سنتين، انطلق إصلاح منظومة التخصص في الطب، فتم التقليص في مدة التربص الداخلي وإضافة 3 سنوات لمن يريد الالتحاق بطب العائلة.
لا يمكن التأكد من مدى فاعلية هذه الإصلاحات وقدرتها على تحسين جودة التكوين الطبي، ولكنها شكلاً تمثل خطوة نحو الإصلاح.
في بلدنا، عندما يكون الطفل صغيراً يقال له دائماً "إن شاء الله فرحتك"، وعندما يتزوج المرء "إن شاء الله فرحة عازب"، وعندما يتقاعد "إن شاء الله في حجة"، وعندما يدخل الطب "العاقبة للريزيدانا"، ثم عندما يفشل في المناظرة "إن شاء الله المرة الجاية"، وهكذا دواليك… إلى متى نستمر في تنميط الحياة؟ لماذا نحاول دوماً تسطير طريق يجب على الجميع اتباعه؟ لماذا يصعب علينا احترام قرار واع لشخص راشد بعدم اجتياز مناظرة التخصص، أو باختيار أن يمضي بقية حياته كطبيب عائلة؟
التخصص في الطب طموح مشروع لكل طالب، ولكن ذلك لا يجب أن يتحول إلى نقمة تلاحقه طوال حياته.
في القرن الواحد والعشرين، أصبحت الآفاق أوسع من وعي العائلة الطبية، ويمكن لمن درس الطب لسنوات أن لا يتخصص، أو أن يتخصص في بلد آخر، أو أن يغير مسار حياته كلياً إلى مهنة قريبة من الطب، أو أن يعيد دراسة الطب جزئياً في بلد آخر… ثم ينجح في حياته.
فالطب أشمل من الاختصاص، والمستقبل أكثر من مجرد مناظرة، وأرض الله واسعة.
معشر الأطباء.. لقد بات من الضروري تطوير التفكير التقليدي الذي حكمنا لأعوام، لم يعد السؤال اليوم "على شنو تخلط؟"، إنما "شنو تحب تولي؟"، فكما يقال : لو تعلقت همة المرء بما وراء العرش لناله، فإذا استطعت الإجابة على هذا السؤال فالبقية ليست إلا شكليات وتضحيات.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.