قبل عام من الآن أعلنت طالبتان شابتان في فرنسا عن تأسيس جمعية نسائية خاصة بالمرأة المسلمة وحقوقها، تحت اسم "لالاب"، لتتحول اليوم إلى محطة اهتمام الإعلام، وموضوعاً للجدل بين مكونات المشهد السياسي الفرنسي.
الجمعية تركز على التفاعل ومحاربة ظواهر من قبيل العنصرية، والتمييز الجنسي، والإسلاموفوبيا في الحياة اليومية للنساء المسلمات في فرنسا، لكن بأسلوب أميركي أكثر منه فرنسي، حيث يحفل موقع الجمعية على الويب بكلماتٍ مثل "التقاطع" و"التحالف"، وهي لغة تُذكِّر بالحراك الأميركي أكثر من الفرنسي.
"لالاب" أصبحت اليوم، حسب تقرير "أتلانتيك"، في قلب الانقسام الذي تشهده فرنسا بين اليسار التقليدي واليمين، حول مواضيع تمسّ بالدين والعلمانية، خاصة بعد مشاركة الأمينة العامة للمنظمة في مناظرة تلفزيونية ساخنة مع رئيس الوزراء السابق، حول الحجاب.
حلفاء وأعداء
قبل المناظرة كانت الجمعية قد سعت أوائل الشهر الماضي إلى الحصول على اعتمادٍ من الحكومة الفرنسية، للحصول على صفة المنفعة العامة، عبر المشاركة في برنامج تطوعي، يُمكِّن المواطنين الفرنسيين الشباب من أداء وظائف قصيرة المدى في مجالات تهم الشأن العام.
هذا الأمر كان من شأنه أن يتيح للجمعية الحصول على التمويل الحكومي لتوظيف متطوعين في مجال الخدمة المدنية، أو هم من سيشاركون بعد ذلك في نشاط الجمعية وعملها التوعوي. لكنَّ ضجة وقعت، بعد أيامٍ من طلب لالاب التسجيل بصفتها جمعية مجتمع مدني، إذ اعترض الكثير من المراقبين على ما اعتبروه انتهاكاً لالتزام الجمعية المُعلَن بالعلمانية، وهو شرط للحصول على تمويل الحكومة. ويعتبر منتقدو الجمعية أنَّها ذات صبغة دينية؛ حيث تقول بعض المصادر الموثوقة، إنَّ لها روابط بجماعة الإخوان المسلمين في فرنسا، أو ربما تكون حتى واجهةً لها، وهو ما تنفيه لالاب بشكل قاطع.
الضجة كما خلقت للجمعية أعداء، فإنها منحتها أيضاً بعضَ الحلفاء في أماكن غير متوقعة بالمرة. إذ دعمها بونوا هامون، المرشح الاشتراكي لانتخابات 2017 الرئاسية، بينما عارضها رئيس الوزراء الاشتراكي السابق مانويل فالس.
وبينما يتوقع البعض أنَّ جمعية نسوية يسارية مثل جمعية تنظيم الأسرة في فرنسا، سوف تُعارض جمعية أعضاؤها يعارضون الزواج المثلي والإجهاض، لكنَّ العكس حصل، حيث أصدرت بياناً دعمت فيه لالاب. وعندما سُئِلَت المنظمة عن منطقها، شدَّدت المنسقة الوطنية فيكتوريا نوسيدا على أنَّ البيان ليس تأييداً للالاب ولا لأعضائها، ولكنَّه إظهار للتضامن مع منظمة نسوية. (أصدرت لالاب بعد ذلك بياناً قالت فيه إنَّها مؤيدة لحرية الاختيار بصفتها المؤسساتية، على الرغم من معارضة بعض أعضائها لذلك الأمر).
مساعي "لالاب" في الحصول على صفة المنفعة العامة لم تكلل بالنجاح حتى الساعة، إذ خلال أيام، حُذِفَ طلبها على الإنترنت، على الرغم من أنَّ رئيس هيئة المجتمع المدني يانيك بلان قال إنَّ الطلب قد حُذِفَ انتظاراً للمراجعة "لأسبابٍ إدارية" لا أيديولوجية.
انقسام حول الإسلام
ويوضح جدل لالاب الانقسام بين المجموعات السياسية التقليدية في فرنسا حول موضوع الإسلام. هذا الانقسام ليس إلا واحداً من أعراض ما يبدو أنَّه إعادة تموضع أوسع في السياسة الفرنسية. إذ لم تعد كلمات مثل "اليسار" و"اليمين" واضحة بما يكفي لوصف المجموعات السياسية، كما كان الأمر في الماضي.
وقد أوضحت الانتخابات الرئاسية الأخيرة هذا الأمر خير إيضاح: فلأول مرة في تاريخ الجمهورية الخامسة، لم يصل أي من الأحزاب اليسارية أو اليمينية الكبرى إلى جولة الإعادة، وفاز بالانتخابات حزبٌ جديد، ترك مرشحه الحزب الاشتراكي.
وكما لاحظ يوري فريدمان، الكاتب بمجلة "ذي أتلانتيك" الأميركية: "يشبه الأمر إلى حدٍّ ما خلق دونالد ترامب حزب "أميركا" أولاً الخاص به، والتنافس ضد مايكل بلومبيرغ، رئيس حزب أميركا للجميع حديث الإنشاء، في انتخابات 2020 الرئاسية، في الوقت الذي يشاهد فيه الجمهوريون والديمقراطيون من بعيد".
أصل اليمين واليسار
فقد تشكلت العائلات السياسية التقليدية "اليمينية" و"اليسارية" كرد فعل على المثل العليا للثورة الفرنسية، لا سيما العلمانية الخالصة، والعصيان المدني، وقيم التنوير.
لم يكن هذا الانقسام موجوداً قبل الثورة، وبحسب الكاتب فرانسوا هوغوين، فإنَّها تكافح لتظل ذات أهمية في الوقت الذي تصبح فيه الثورة أكثر فأكثر شيئاً من الماضي. فلم يعد لليمين ثورة يعارضها، ولم يعد لليسار ثورة يدعمها. وبحسب هوغوين فإنَّ "الثورة الدائمة، التي كانت المحرك لليسار واليمين، والوقود الذي يدعمهما، في طور الموت".
عندما كان الحزب الملكي داعماً للملكية، كان اليمين في فرنسا مدافعاً صلباً عن الكنيسة ومعارضاً لعلمانية الثورة الفرنسية. وبشكل عام، لا يزال اليمين معادياً لما يراه تطرفاً يسارياً في الحماس تجاه تطبيق العلمانية، أو اللائكية، وقد استمر هذا التشكك حتى الحرب العالمية الثانية، التي بعدها بدأ اليمين في استخدام العلمانية درعاً ضد زيادة حجم وأهمية الإسلام في فرنسا.
واليوم، يجد اليمين نفسه بشكلٍ كبير فيما يتعلق بالقضايا الاقتصادية والأمنية، مثل إصلاح العمل والجيش القوي. لكنَّه تمزق داخلياً بين أولئك الذين نادوا بتفسيرٍ صارم للعلمانية الفرنسية، وأولئك الذين تعاملوا مع الموضوع بشكل أكثر مرونة. وقد مرَّ الحزب اليميني الأكثر انتشاراً، حزب "الاتحاد من أجل حركة شعبية"، بأزمةٍ داخلية عام 2015، وتغيرت تسميته إلى الجمهوريين، فيما اعتُبِرَ بشكلٍ كبير خطوةً دعائية، حيث لم يعد ما يمثله اليمين، ونتيجةً لذلك فشل في انتخابات 2017 التشريعية، إذ حصل الائتلاف اليميني على أسوأ نتائجه في تاريخ الجمهورية الخامسة.
ويعاني اليسار أيضاً للتعريف بالمبادئ التي يدعمها. فاليسار الذي كان متصفاً بالحراك من أجل عدالةٍ اجتماعية راديكالية في الستينيات والسبعينيات، يقف الآن بشكلٍ فضفاض مسانداً لمبادئ الليبرالية، باستثناء أقصى اليسار. ويعني هذا التأييد التركيز على المسؤولية الفردية أكثر من التدخل الحكومي. (مع التنبيه الهام إلى أنَّه في أوروبا، بخلاف الولايات المتحدة، ثمة مستوى أساسي من التدخل الحكومي قد يُعتَبر راديكالياً في أميركا، يشمل رعاية صحية كاملة وحماية عمالية قوية، هذا المستوى يعتبر أمراً مفروغاً منه).
لكن حتى هذا البرنامج المتواضع لا يحظى بدعم كل الأعضاء. إذ يشعر الجمهوريون اليساريون المرتبطون بالتاريخ العلماني الصارم للجمهورية الخامسة، بالخلاف مع اليساريين الأكثر "راديكالية"، المتمسكين بمنهج أكثر أميركية ناحية الدين والتعددية الثقافية.
وقال ببير بريشون، أستاذ العلوم السياسية بجامعة ساينس بو غرينوبل: "هذا انقسام مهم حول الإسلام في فرنسا، وبين الناس المنفتحين على الإسلام، طبقاً لنوعٍ بعينه من العلمانية، والآخرين المنغلقين جداً تجاهه، طبقاً لنوعٍ آخر من العلمانية. هذا الجدل يتجاوز الانقسام اليساري اليميني".
استغلال أيديولوجي
مسألة الإسلام في فرنسا "تكسر" اليسار، بحسب بنيامين حداد، وهو أستاذ باحث بمؤسسة هدسون، وليس الأمر متعلقاً بأسباب أيديولوجية فحسب، لكن لأسباب عملية أيضاً. يقول حداد إنَّ المسؤولين المحليين المنتخبين لطالما استخدموا سياسات الهوية للفوز بالانتخابات، لكنَّ هذه الاستراتيجية تؤدي إلى نتائج عكسية الآن.
وعبر كريستوف باربيير، الصحفي ومؤلف كتاب "The Final Days of the Left" أو "الأيام الأخيرة لليسار"، عن هذا الأمر بقوله: "لو استمر اليسار في سلوك هذا الطريق، فسوف يُثير مواجهة أيديولوجية ستعجل بهزيمته، لأنَّه سيكون هناك دوماً عددٌ أكبر من الناس في هذا البلد، يتصرفون بانتقامية وعدوانية ضد المهاجرين، لا سيما المسلمين".
تهديد وتحرش
الجدل حول العلمانية والهوية، مثل الجدل المحيط بلالاب والخدمة المدنية يمكن أن يصبح عنيفاً، فحتى اللحظة، تعرَّضت لالاب لثلاث محاولات قرصنة، وتلقت بعض عضواتها تهديداتٍ بالاعتداء الجنسي، وسُرِّبَت معلوماتهن الشخصية على الإنترنت.
لالاب تقع أيضاً في منطقةٍ غير مريحة في الهيكل السياسي الفرنسي التقليدي، وتُجسِّد، بشكلٍ ما، الصراع حول معنى العلمانية. وداخل اليسار، ستشجع التعريفات المتعارضة للائكية تياراً من اليساريين على معاداة منظماتٍ مثل لالاب، بينما ستدفع تياراً آخر لدعمها. وداخل اليمين، قد يتسامح تيارٌ راغب في التساهل في رؤيته للعلمانية مع لالاب، بينما لن يتسامح معها الآخر.
إلا أن هذه الأمور لا تُقلق بأي حال من الأحوال سارة زواك، إحدى مؤسسات لالاب، التي حينما سُئلت عما إذا كانت قد تفاجأت بالنقد اللاذع من اليسار واليمين أجابت: "لستُ متفاجئةً على الإطلاق".