في مكتبٍ بالرياض تابعٍ لشركة الإنشاءات العملاقة "سعودي أوجيه" يغطي الغبار المكاتب، وأعقاب السجائر وزجاجات المياه الفارغة تكسو الأرض، فيما يزدحم صندوق البريد بالمظاريف المتراكمة.
وتمتلئ ساحة انتظار السيارات التابعةِ لمنشأةٍ أخرى خاصة بالشركة نفسها على بُعد ميلٍ واحدٍ عن آخرها بالقمامة، فيما تُرِكَ الفرع الرئيسي للشركة والواقع على بُعد بضعة نواصي تجاه الغرب ليعالج وحيداً أزمات العمال الغاضبين، وفقاً لما ذكرته وكالة بلومبيرغ الأميركية.
ولطالما كانت شركة أوجيه إحدى كبرى شركتَي البناء السعوديتين، والعملاق الذي كان وراء مشاريع كفندق ريتز كارلتون بالرياض ذي الـ492 غرفة، وحرم جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا مترامية الأطراف والواقعة على ساحل البحر الأحمر، بالإضافة إلى ربع محطات توليد الطاقة التي تغذي عملاق النفط "أرامكو السعودية".
لكن في يوليو/تموز أغلقت "أوجيه" أبوابها بعد سنواتٍ من سوء الإدارة، ورحيل أفضل التنفيذيين، تاركين وراءهم آلاف العمال الذين لم يتلقوا رواتبهم، والذين هم في الغالب مهاجرون ترتبط تصاريح إقاماتهم بوظائفهم، فضلاً عن ديون تصل على أقل تقديرٍ إلى 3.5 مليار دولار، وفقاً لتصريحات أشخاصٍ مطلعين على الملف.
إعادة ترتيب المناخ الاقتصادي
ويلقي سقوط شركة أوجيه الضوءَ على إعادة ترتيب المناخ الاقتصادي تحت حكم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، البالغ من العمر 32 عاماً، والذي تخطى أمراء أعلى منه ليصبح وريثاً للعرش. ولعقودٍ هيمنت على الاقتصاد مجموعةٌ من الشركات الصغيرةٍ ذات الأفضلية، والتي حصلت على عقودٍ من الدولة لبناء كل شيءٍ، من المساجد، إلى الوزارات، إلى الطرق السريعة.
وفيما يسعى الأمير محمد إلى تحرير اقتصاد المملكة من الاعتماد على واردات النفط، وخفض العجز الحكومي، تكافح تلك الشركات كي لا تغرق. يقول كريسبن هاوس العضو المنتدب لشركة تينيو إنتيليجانس، وهي هيئةٌ لاستشارات المخاطر السياسية بلندن: "هناك عنصرٌ من سماح الحكومة لذلك بالحدوث كدليلٍ على ما تتطلبه البيئة الحالية. وهذا اعترافٌ عامٌ جداً بتغيير الأهواء".
وقد تردَّدَت أصداء هذا التغيير في الاقتصاد برمته. فبعد أن خفض الأمير محمد نفقات الخدمة المدنية، واجَهَ تجار التجزئة فجوة الإنفاق الاستهلاكي. وعانت شركات توريد المعدات الطبية تراجعاً، حيث قُلِّصَ الإنفاق على الرعاية الصحية.
وحين قلَّصَت الحكومة الإعانات، بدأت شركات البتروكيماويات في دفع المزيد لقاء المواد الخام. وكان قطاع الإنشاءات من بين أكثر القطاعات تعرضاً للضرر؛ نظراً إلى اعتماده على العمالة الوافدة الرخيصة والتعاقدات الحكومية. والمنافس الرئيسي لشركة أوجيه والمتمثل في مجموعة بن لادن السعودية عانت هي الأخرى بدورها.
وتُركِّز خطة الأمير المسماة "رؤية 2030" على الخصخصة وتعبيد الطريق للاستثمارات الأجنبية، ما يعني أن الشركات السعودية التي كانت يوماً مُدلَّلةً ستواجه منافسةً يجري إنعاشها مؤخراً. وفي إطار هذا التجديد، ستتحرَّر الشركات العالمية في قطاعات الهندسة وغيرها من القيود التي تتطلَّب شريكاً محلياً، ما سيمنحهم فسحةً عظيمةً لحماية استثماراتهم في المملكة.
وتقول مونيكا مالك، كبيرة الاقتصاديين في بنك أبوظبي التجاري: "إن فتح السوق مباشرةً أمام شركات الإنشاءات الأجنبية سيكون من شأنه أن يساعد في تنفيذ برنامج التطوير".
وكانت شركة أوجيه قد حظيت بدعمٍ ملكي عام 1970 تحت قيادة مؤسسها الحاصل على الجنسية السعودية رفيق الحريري، والذي عاد فيما بعد إلى موطنه الأصلي لبنان، حيث عمل رئيساً للوزراء. وحين أتم بنجاحٍ بناء فندقٍ ومركزٍ للمؤتمرات، صار معاوناً للملك فهد الذي حكم المملكة منذ عام 1982 وحتى عام 2005، وبدأت شركة أوجيه في الحصول على تعاقداتٍ لكل شيءٍ، بدءاً من المستشفيات وحتى الطرق السريعة.
وبعد اغتيال الحريري في بيروت عام 2005، تولَّى ابنه سعد قيادة الشركة.
وقد جاء انهيار "أوجيه" سريعاً، بانخفاض قيمة تعاقداتها من 8.9 مليار دولار عام 2014 إلى قرابة 850 مليون دولار هذا العام، طبقاً لما أوردته شركة ميد بروجكتس للأبحاث. وفي عام 2015، أجَّلَت الحكومة دفعاتٍ لشركات البناء؛ ما دفع بـ"أوجيه" و"بن لادن" إلى إيقاف دفع أجور العاملين شهوراً. وقد أضرم العاملون النيران في حافلات كلتا الشركتين احتجاجاً، كما شنق موظفٌ فلبيني لدى شركة أوجيه نفسه يأساً.
تركوها تسقط
وفيما أفرجت الحكومة العام الماضي عن بعض الدفعات، وتعرج شركة بن لادن خلال الأزمة يظل من العسير إيجاد عملٍ. وقد قدرت ميد بروجكتس أن قيمة عقود الإنشاء العامة قد تقلَّصت من 60 مليار دولار عام 2013 إلى 18.6 مليار دولار عام 2016. وفي لقاءٍ أجرته معه وكالة بلومبيرغ العام الماضي، لمح الأمير محمد بن سلمان إلى أنه ينوي ترك "أوجيه" تسقط.
وقال إنه يُقدِّر التزام المملكة تجاه "أوجيه"، لكن إن كانوا لا يستطيعون الدفع لمقاوليهم وعمالهم "فتلك مشكلتهم".
ومن غير الواضح ماذا سيكون مصير أصول وديون الشركة، لكن مروان إسكندر الاقتصادي اللبناني، الذي تربطه علاقةٌ بالحريري الأب والابن، يقول إن سقوطها يشير إلى أنه "ليست هناك علاقة ذات امتيازٍ خاص بعد الآن"، مشيراً إلى الارتباطات الاقتصادية تجاه الحكومة.
ولم يستجب المسؤولون السعوديون لطلبات التعليق. وأحال مكتب الحريري الأسئلة إلى محامي الشركة، والذي لم يردَّ على الرسائل.
وتتضح الصعوبات التي تواجه الشركة بشكلٍ واسعٍ في المقر الرئيسي، بالمبنى قليل الارتفاع الواقع جنوب الرياض. وتحت الحرارة اللافحة لأحد أيام الصيف الجاري، يندفع الموظفون الجزِعون إلى الداخل، طالبين الحصول على شهادات نهاية الخدمة وتذاكر الطيران التي ستعيدهم إلى أوطانهم.
ويقول مهندسٌ فلبيني، يُدعى "أمانة" ويبلغ من العمر 41 عاماً ويرفض أن يُصرِّح باسمه كاملاً، إنه يُقدِّر مستحقاته بقرابة 80 ألف ريالٍ سعوديٍ، أي ما يوازي 21300 دولار، لقاء العامين المنصرمين. ويقول: "العاملون الأجانب لا يملكون المال، فماذا عساي أن أفعل؟!".
ويقول جمال الزعبي، مدير المشروعات الأردني الذي انتهى تصريح إقامته، إنه لا يقدر على مغادرة البلاد؛ لأنه مديونٌ بنحو 20 ألف ريالٍ سعودي، رغم أن أمراً قضائياً قد صدر بإلزام الشركة بدفع مبلغ 750 ألف ريالٍ له، لم يتلقَّ شيئاً. ويقول الزعبي، البالغ من العمر 46 عاماً، وهو أبٌ لـ5 أبناء: "أخي يساعدني، لكن بعض الناس ليسوا محظوظين مثلي، الوضع مأساوي".