عن الروهينغا وأخواتها

من حُسن حظي أن سمح لي عمري أن أشهد تجارب إنسانية عظيمة، فأنا شاهدة على بناء الاتحاد الأوروبي كتجربة إنسانية فريدة؛ حيث تتوحد شعوب دون حروب ولا إكراهات، بل تسهر هي نفسها على ملفات طلبات ترشيحاتها للانضمام إليه.

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/11 الساعة 04:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/11 الساعة 04:48 بتوقيت غرينتش

من حُسن حظي أن سمح لي عمري أن أشهد تجارب إنسانية عظيمة، فأنا شاهدة على بناء الاتحاد الأوروبي كتجربة إنسانية فريدة؛ حيث تتوحد شعوب دون حروب ولا إكراهات، بل تسهر هي نفسها على ملفات طلبات ترشيحاتها للانضمام إليه.

واعتبرتني أكثر حظاً وأنا أشهد ثورات الربيع العربي الديمقراطي وأتورط فيها متابعةً وفعلاً حسب ما أتاحته لي إحداثياتي المكانية.

لكن عمري جعلني أيضاً أشهد مآسي وفظاعات إنسانية سواء في المحيط العربي الإسلامي أو باقي العالم، بحكم البيئة الأولى والقرب الجغرافي كانت مآسي العشرية السوداء التي عاشها جيراننا الجزائريون، وبعضها على مشارف بيتنا في منطقة حدودية، من أكثر البشاعات الإنسانية تأثيراً مباشراً في وعيي ووجداني (طبعاً هذا لا يتعارض مع مآسي الفلسطينيين والعراقيين واللبنانيين السابقة واللاحقة على السواء).

من سوء حظي أيضاً أنني عايشت مجازر رواندا ومجازر كوسوفو والآن نعايش مجازر بالجملة في مصر/رابعة وسوريا واليمن وميانمار تخص مسلمي الروهينغا.

هذه الأحداث المأساوية مركبة الأبعاد يتداخل فيها الإثني والديني والسياسي والاقتصادي، في مجموعها هويات قاتلة على حسب أمين معلوف.

يعتبر الروهينغا أقلية في ولايتهم إحدى ولايات دولة ميانمار ذات الأغلبية البوذية.

قابلت مرة واحدة في حياتي فتاة من الروهينغا ووالدها خلال فعاليات مؤتمر الفتيات المسلمات بالشارقة سنة 2004، منذ ذلك الوقت صار لدي وجهان وقصّتان إنسانيتان أسقطهما على هذه الأقلية ومآسيها، فللقاءات سحر ووقع خاصان على البشر.

إثنياً تعتبر الأقلية بنغالية منحدرة من رحلات تجار طريق الحرير المسلمين، استوطنت في القرن الخامس عشر ولاية أراكان وتتكلم لغة بنغالية أيضاً يقال إنها قريبة من لغة البنغالي الاقتصادي محمد يونس صاحب جائزة نوبل للسلام.

ويشاع أيضاً أن الاستعمار البريطاني حرص على توطين هذه الأقلية في حربه على برمانيا/ميانمار منذ بدايات القرن التاسع عشر، وعمل أيضاً على تجنيدها في حربه على الأغلبية البوذية، وأن نفس الشيء حصل خلال الحرب العالمية الثانية حيث جنّدت كل القوى الاستعمارية مواطني مستعمراتها في حروبها، ليأخذ مسلمو الروهينغا وسم الخيانة عند شركائهم في الوطن من الأغلبية البوذية، وخاصة أصحاب النزعة القومية منهم.

ومنذ الاستقلال سنة 1948 سوف يضطهد الروهينغا وتسقط كل حقوقهم الأساسية بما فيها حق الجنسية والحقوق السياسية انتخاباً وترشيحاً، بل وحتى التجارة أو الزواج من بوذيين، سوف يقضون مضطهدين في مخيمات للاجئين.

هذه العوامل كلها أرض خصبة تفضل انفجار العنف كلما طالبت الأقلية المسلمة بحقوقها، أو حاولت أن تنتظم للدفاع عن نفسها، أو تطلب دعم منظمات إسلامية خارجية كمنظمة التعاون الإسلامي مثلاً.

فللأسف، لم تجد هذه الأقلية المضطهدة ملاذاً في الدول الإسلامية المجاورة لها سواء في بنغلاديش أو ماليزيا أو إندونيسيا التي تعيب على أستراليا الموقّعة على معاهدة جنيف للاجئين عدم استقبالها لمهجري الروهينغا!

في الحالة الرواندية، قبل الحماية الألمانية التي تلاها الاستعمار البلجيكي كان الهوتو والتوتسي يعيشون في سلام، حتى زرع المستعمرون الجدد في الأقلية التوتسية نزعة التفوق والهوتو خصّصوا للسخرة والاستعباد لتنمو وتزدهر الأحقاد في النفوس، الثورة الرواندية لسنة 1959 سوف تنتهي بتسلم الهوتو للسلطة مما سينتج عنه تصفية المقاومين من التوتسي للتغيير وفرار الباقين إلى أوغندا.

هؤلاء سوف ينتظمون ويتسلحون بمباركة أميركية ويحاولون دخول الوطن مع دعوات دمقرطة رواندا في تسعينيات القرن الماضي.

مقتل الرئيس الرواندي رفقة زميله البوروندي سوف يؤجج حرباً أهلية تؤدي إلى مجازر بشعة تغذيها انتقامات ليصل عدد ضحاياها إلى 800000 شخص خلال بضعة أشهر، اغتيالان يشاع أنهما بتشجيع فرنسي.

بيل كلينتون رئيس الولايات المتحدة الأميركية وقتها برّر عدم تدخّل دولته للحد من مآسي الروانديين إلى عدم علمه بمدى البشاعة على الأرض، في حين اشتهرت شهادة لناشطة إنسانية رواندية تقول إن دبلوماسياً أميركياً أخبرها ألا مصلحة مباشرة لأميركا للتدخل والمجازر تؤثث مشهد بلدها وأهلها. بعد فوات الأوان سوف تفوض للأمم المتحدة مهمة إعادة الأمن والسلام لرواندا والمنطقة، لكن الزايير سوف تشتعل مباشرة بعدها.

في كوسوفو حيث الأغلبية ألبانية مسلمة تاقت للتحرر والاستقلال مع انهيار دولة يوغوسلافيا بداية تسعينات القرن الماضي. سوف ترفض الحكومة طلب الاستقلال وينتظم الألبان الكوسوفار في تنظيم مسلح لبدء مرحلة الكفاح المسلح، لكن الرئيس الصربي سوف يأمر بترحيل الأغلبية المسلمة وتوطين الصربيين دعماً للأقلية الصربية في كوسوفو بعد مقتل 28 شرطياً.

مرة أخرى سوف يتفرج العالم على المجازر التي ستبدعها الحرب الأهلية وتحت أنظار القبعات الزرق حتى يتدخل الحلف الأطلسي لإنهاء الحرب، والغريب أنه كان تحت مسمى: "حماية حقوق الإنسان"، يبدو أن النظام الدولي الجديد وقتها كان يسعى لتدوير مهمة الحلف ليصبح قوة حفظ للسلام والمهام الإنسانية في الكوارث الطبيعية، حتى أنقذه براديغم صراع الحضارات ورافعته الإرهاب الإسلامي.

المخاييل والوجدانات أيضاً حاكمة ومتحكمة في آراء وسلوكيات الأفراد والمجموعات معاً، فمثلاً صراع التبت والصين وعداء الغرب لهذه الأخيرة جعل مثالية السلم والزِن والتأمل كلها تتمثل في البوذية ديانة ومعتقداً ورياضة وأشخاصاً وعلى رأسها الدالاي لاما صاحب الابتسامة الدائمة؛ هكذا طبع المخيال الغربي، فصعب جداً أن تربط البوذية بالعنف والهمجية.

في حين أن الإسلام في نفس المخيال يتمثله اضطهاد المرأة والعنف والانفجارات الانتحارية وغيرها وهي كلها عوامل تلعب ضد أقلية الروهينغا المسلمة في ميانمار المضطهدة من طرف الأغلبية البوذية.

ليست هذه هي المرة الأولى التي يغيب فيها التعاطف الدولي، مسؤولين وشعوباً، مع مآسي المسلمين.

أذكر أن فيضانات باكستان العنيفة التي شهدها صيف سنة 2010 لم تستطِع أن تحفز إنسانية العالم وكرمه كما فعل قبلها بستة أشهر زلزال هايتي مثلاً.

نحن ضحايا صورة لنا ونتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية في تكوينها. يظل موقفنا من مأساة الروهينغا أضعف المؤازرة والتعاطف وشعورنا بمعاناتهم شعوراً إنسانياً نبيلاً.

لكن مع تفاوت في الدرجات والمستويات، إن استعرنا روح الحديث الشريف: "ما يسكر كثيره فقليله حرام"، فإن ما يؤذي كثيره فقليله مرفوض أخلاقياً ودينياً وإنسانياً.

– خليجنا العربي لا يعدم أيضاً من هم بدون جنسية ومن أمهات خليجيات وآباء عرب ومسلمين.
– في غالبية مناطقنا الجغرافية العربية والإسلامية تتوزع أقليات إما دينية أو إثنية أو لغوية منقوصة الحقوق والمواطنة.

– لدينا أيضاً مخيمات للجوء يكدس فيها الفلسطينيون في لبنان وسوريا، ومؤخراً السوريون بدورهم يكدسون في مخيمات للجوء في لبنان والأردن وتركيا.

– عندنا أيضا تهجير وقتل للمصريين والسوريين واليمنيين والليبيين… وفي بلدانهم ومن أشقائهم في الوطن وحلفائهم.

فلا نجتر نداءات تُسائل حكامنا ومؤسساتنا وعلماءنا ومثقفينا عن مأساة الروهينغا فقط. ولنتأمل أيضاً دواخلنا بعمق وليُسائل كل واحد منا نفسَه عن المسافة التي تفصله عن اتخاذ موقف وترجمته إلى فعل في واقعه الأول إزاء إسقاط الجنسية أو هضم الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإثنية واللغوية وغيرها.

لن نستطيع أن نكون فاعلين إنسانيين ومؤثرين في هذا العالم حاملين لقيم الخير، ما دامت مجتمعاتنا بعيدةً في واقعها المعيش عن تفعيلها وتمتيع مواطنيها بها.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد