أحنّ إلى منزل جدي

ليس الخلود للنوم في بعض الأحيان بسهولة الاستلقاء على الفراش وإطباق العينين، نظرت إلى سقف غرفة الفندق بتأمّل عميق فسرحت وسبحت وغصت في أعماق النوستالجيا، أعادني سقف غرفة الرياض نحو حنين الطفولة وحلاوة الماضي بعيداً عن المشاكل اليومية في استرخاء وصفاء ذهن.

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/09 الساعة 03:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/09 الساعة 03:53 بتوقيت غرينتش

ليس الخلود للنوم في بعض الأحيان بسهولة الاستلقاء على الفراش وإطباق العينين، نظرت إلى سقف غرفة الفندق بتأمّل عميق فسرحت وسبحت وغصت في أعماق النوستالجيا، أعادني سقف غرفة الرياض نحو حنين الطفولة وحلاوة الماضي بعيداً عن المشاكل اليومية في استرخاء وصفاء ذهن.

كلما تذكرت الرياض هذه الإقامة التقليدية ذات الشهرة العالمية التي تبيّن أسس الضيافة المغربية والطّراز المغربي الأصيل إلا وتحسرت لما لحقها من اغتصاب وتشويه من طرف المستعمر، عفواً المستثمر الأجنبي الذي طمس الثقافة العريقة للذوق المغربي تحت شعار الرأسمالية السياحية.

المنزل: لم تكن أضراسي قد اكتملت بعد حينما سمعت هذه الكلمة، ذلك العالم المتحجر بجدرانه وسقفه وأرضيته الذي يحمينا من خطر الطبيعة ومن تقلباتها وتهجم الحيوانات وافتراس الإنسان للإنسان.

لن أنجح في تقريب الصورة إليك حتى لو وصفته بأدق الأوصاف وأسمى العبارات؛ لأنه يختلف طراز المنازل أو المساكن بشكل كبير من بلد لآخر، ونمط البناء يتغير بمرور الزمن والمكان الحضارة والثقافة، إلا أن المنزل المغربي متفرد في معماره وجودته.. منزل جدي كان يتواجد بحي شعبي بالمدينة القديمة لمراكش، بابه مصنوع من الخشب السميك المزين بمسامير غليظة، الجدران مبنية بالحجارة والتراب، هكذا هي جل منازل المدينة القديمة، يا لها من مفارقة! هذا التواضع الخارجي يخفي داخله كنزاً معمارياً فنياً لا يقدَّر بثمن.

المنازل المغربية التقليدية كالنساء التقليديات، تخفي محاسنها عن الأجانب وتظهر مفاتنها أمام أهل الدار.

أتذكر جيداً عندما كنا نصيح عند المدخل فينعكس الصوت ويتردد نحو قاع الدار المزدوجة البناية، ساحتها مربعة في وسطها نافورة صغيرة، جميع أبواب الغرف مفتوحة على الفناء في وسط المنزل، تتميز بنقوشها البديعة وزخرفتها التقليدية.. تلك الأمتار المربعة هي الوطن ومهد الطفولة، أفيون الحياة ومختبر التجارب.. إذا كبرت فيك الطفولة فلا تسأل عن المنزل وإنما الحنان الذي يحتويه.

يوم على صدر يوم أمر عبر الزقاق أحمل خبز أمي للفرّان أسلم على كل مَن تراه عيني، هذا ما تربينا عليه وألفناه منذ الصغر، إنها جاذبية التعايش بأجواء الأحياء الشعبية بمراكش، إنها ثقافة اكتسبناها من أجدادنا، غطاء الرأس وحجر الزاوية، هوية لكل شخص يسكن المدينة القديمة.

وأنا أحيد بالمتاجر والمحلات ترمى على مسامعي "الأغاني الشعبية" التي تكرس تقاليد الثقافة الشعبية المراكشية، أغاني الفنان حميد بن الطاهر، أو كما يسميه أبناء مراكش حميد الزاهير تخترق جميع منازل المراكشيين، "للا فاطمة" "أنا عندي معاد"، بين الغناء والعزف على آلة العود والدقة المراكشية.. من شمال الأسوار حتى ساحة جامع الفناء.

أعشق المدينة القديمة قلب مراكش النابض، إنها الأساس التاريخي واللون الخالد والطقس العاشق للحضارة المغربية الأصيلة، أزقتها مزدحمة بكثرة السياح والسكان المحليين الذين يقصدونها ويعملون فيها يومياً، ما يجعلها من أهم المحطات السياحية في المغرب.

أحفظ شوارعها الضيقة، وأعشق المرور بين الأسواق والحوانيت؛ حيث متاجر الصناعة التقليدية التي تسوّق لكل ما هو منتوج محلي من غذاء ونسيج وملابس وسجاد وفخار.

فوضى الحواس تجتاحني عندما أتسكع وأصدقائي بالقرب من المعالم التاريخية نشاهد رقص أفاعي الكوبرا وتمطط القرود، نسمع قرع الطبول، ونشم رائحة الطعام المغربي الشهي من مبخرات ومشويات.

جل الوقت نتخطى الأزقة المزدحمة ونحن نلعب الكرة ونتدافع ونتراشق بالحجارة وعبوات المشروبات الغازية الفارغة.

عندما أعود بذاكرتي إلى تلك الأيام، أعشق عمري لأني إذا متّ أخجل من دمع أمي، أقلب تلك الصفحات العطرة وأشم عبق الحياة أحنّ إلى طفولتي البريئة، كل شيء كان جميلاً وآمناً وتقليدياً، كيف لا ونحن نلعب في الزقاق بكل حرية ألعاباً تقليدية كثيرة ومتنوعة، ننتقل بين أسطح المنازل، ونستمتع بكلمات جدي المتثاقلة حول صولاته وجولاته في الحروب العالمية وبعض قصصه التي كانت أغلبيتها من نسج الخيال، صوت خرير المياه يخترق وسط نافورة المنزل شجر البرتقال، والحامض يغطي المنزل بجنباته مساحات خضراء مليئة بالنعناع والورود.

ما أجملها من أيام خالية من الحقد والكراهية مليئة بالحب السعادة والصفاء!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد