مع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، حاز الشيشانيون سُمعةً عالمية باعتبارهم من بين أقوى المقاتلين في العالم، خاصة مع اندلاع الصراع السوري. وعزَّز صعود أحدهم، أبو عمر الشيشاني، إلى أعلى المناصب العسكرية في داعش هذه الصورة.
ووفقاً لمقابلاتٍ جرت مؤخراً في الموصل، كان المقاتلون الشيشانيون في داعش من بين أكثر المقاتلين الأجانب الذين يخشاهم المدنيون. بيد أنَّ أولئك الذين يقاتلون مع داعش ليسوا سوى مجموعة واحدة من الشيشانيين العاملين في سوريا الآن كما جاء في تقرير نشرته "فورين بوليسي".
ثلاث مجموعات.. ثلاثة أهواء
ينقسم الشيشانيون النشطون سياسياً وعسكرياً إلى 3 مجموعات حسب "فورين بوليسي"، جميعها أرسلت عناصر منها إلى سوريا. المجموعة الأولى من داعمي رئيس الجمهورية الشيشانية الحالي، رمضان قديروف، وتُعرَف تلك المجموعة باسم "القديروفيين". وبصفتهم القوات المسلحة الرسمية في الشيشان، فقد حظوا بالتدريب العسكري الأفضل ولديهم أكثر المقاتلين خبرة. وخصماهما الرئيسيان هما "الإشكيريون"، الذين ينتمون لجمهورية الشيشان إشكيريا المستقلة، و"الإماراتيون"، الذين ينتمون لإمارة القوقاز الإسلامية.
والإشكيريون هم بشكلٍ رئيسي أتباعٌ قوميون للإسلام الصوفي. وقد قاتلوا خلال حربي الشيشان الأولى والثانية من أجل استقلال دولة إشكيريا، في الفترة بين 1991 وحتى عام 2000، ولم تحظ سوى باعتراف حكومة طالبان في أفغانستان. ورغم أنَّ هؤلاء المقاتلين لديهم خبرة عسكرية كبيرة، فلم يتبق منهم سوى القليل، إذ هاجر الكثيرون منهم إلى أوروبا الغربية.
أمَّا الإماراتيون، فهم سلفيون يدعمون تطبيق الحكم الإسلامي في شمال القوقاز. وكانوا قوة معارِضة مهيمنة داخل الشيشان. ورغم أنَّ المجموعة قاتلت في حرب الشيشان الثانية، فإنَّ أعضاءها الحاليين لديهم أقل قدر من الخبرة العسكرية. وحتى قبل الحرب السورية، أُرغِم الكثيرون منهم على مغادرة روسيا وإعادة التوطين في تركيا.
الصدام في سوريا
القوى الثلاث لم تصطدم في روسيا حيث اقتصر الصراع بينها على شبكة الإنترنت إلى أن جاءت الحرب السورية التي وفَّرت أرضاً فسيحة للصدام بينها من جديد.
ترك الإماراتيون المُهجَّرون تركيا وشكَّلوا جيش المهاجرين والأنصار ضمن مجموعاتٍ أخرى شكَّلوها، وذلك للقتال ضد نظام بشار الأسد في سوريا. وفي نهاية المطاف، نفذ منهم المال واندمجوا مع داعش. وينظر الإماراتيون، إلى جانب شيشانيين آخرين في صفوف داعش، إلى القديروفيين باعتبارهم عدوهم الرئيسي. ووفقاً لمقاتل ناطق بالروسية في داعش، "يكره شيشانيو داعش قديروف بسبب طريقة معاملته لشعبه، وبسبب موقفه تجاه الدين".
وفي الوقت نفسه، وفي ظل دعم روسيا للأسد وضمانها ولاء قديروف للرئيس فلاديمير بوتين، كُلِّف القديروفيين بالقتال في سوريا ضمن الجبهة الموالية للنظام، الأمر الذي يتضمَّن قتال كلٍ من داعش والمعارضة السورية. ووفقاً لدانيال مارتينوف، أحد مستشاري قديروف، فإنَّ "المقاتلين قد تلقوا تدريباً على يد أفضل أفضل القوات الروسية وجميعهم جرى نشرهم في عملياتٍ قتالية سابقة".
وأخيراً، نظَّم الإشكيريون ميليشيا تُسمَّى أجناد القوقاز، التي انضمَّت إلى المعارضة ضد الأسد. وتتعاون المجموعة مع المعارضة السورية المعتدلة وهيئة تحرير الشام، التي خَلَفَت جبهة النصرة السورية المرتبطة بتنظيم القاعدة. لكن وفقاً لأبي بكر، أحد قيادي أجناد القوقاز، فإنَّ هدف المجموعة الرئيسي هو "إلحاق أكبر قدر ممكن من الأذى بالقوات الروسية، لا سيما القديروفيين قدر الإمكان". وليس من المستغرب إذن تمركز نحو 200 من مقاتلي أجناد القوقاز حالياً بالقرب من إحدى القواعد العسكرية الروسية في طرطوس.
وإلى جانب روسيا، تنظر مجموعة أجناد القوقاز إلى داعش فقط كثاني أكبر أعدائهم، لكنَّهم لا يُعبِّرون عن أي اهتمام بقتاله وجهاً لوجه، مُفضِّلين بدلاً من ذلك ترك أعدائهما يُدمِّرون بعضهم البعض. فعلى سبيل المثال، في أثناء معركةٍ بين القوات الروسية وداعش في تدمر، امتنع أجناد القوقاز عن التورُّط. وتبغض المجموعة بشكلٍ خاص الشيشانيين الذين يقاتلون مع داعش. فقال أبو بكر: "لم يقاتلوا هناك في الشيشان، لكنَّهم انضموا إلى داعش من أجل الشهرة، والدعاية، والمال".
عداء متبادل
في بداية الحرب، وفي عمليةٍ ضد داعش، أسرت مجموعة أجناد القوقاز شيشانياً تابعاً لداعش. وسأله أحد أعضاء المجموعة: "هل أردت حقاً أن تقتلنا؟ إنَّنا من وطنٍ واحد". فضحك الأسير ورد: "بالطبع! أنتم كفار". وهناك حتى شائعات متداولة بين الشيشانيين في صفوف داعش، مفادها أنَّ الإشكيريين يعوون كالذئاب بعد العمليات الناجحة. ورغم أنَّ حيوان الذئب هو رمزٌ لإشكيريا، فإنَّ القصة تهدف أيضاً لإظهار أعضاء المجموعة وهم مُجرَّدون من الصفات الإنسانية.
ومهما كانت نوايا الشيشانيين ضد داعش، فإنَّ نقص خبرتهم العسكرية يعيقهم. إذ قال أحد مقاتلي داعش السابقين الذي تمركز مع مجموعة الشيشانيين الرئيسية التابعة للتنظيم إنَّ قائده، سيف الله الشيشاني، كان غير كفؤ. وذكر المقاتل السابق إنَّه "ظهر كثيراً في مقاطع فيديو المجموعة، طلباً للمال".
وأكَّد المقاتل السابق أيضاً أنَّ "الصورة العامة للشيشانيين في داعش تستند إلى الإنجازات العسكرية التي حققها المقاتلون الذين قاتلوا في حربي الشيشان الأولى والثانية ضد روسيا (المقاتلين الداعمين لدولة إشكيريا)، والآن يستثمر الشيشانيون ضمن صفوف داعش ذلك". أمَّا أكثر القادة الشيشانيين الميدانيين احتراماً بسبب حرب الشيشان، والذي كان اسمه الحركي الذي جرى تبنِّيه على نطاقٍ واسع من قِبل مقاتلي داعش المحليين، فهو "خَطَّاب". لكنَّه ليس شيشانياً، إنَّه سعودي.
وحتى أرفع القادة الشيشانيين في داعش، أبو عمر الشيشاني، ليس لديه سوى خبرة عسكرية حقيقية محدودة. فوفقاً لسيرته الذاتية قبل سوريا، كان رقيباً في الجيش الجورجي خلال الحرب الروسية – الجورجية، التي استمرت فقط لستة أيام، والتي حاول بعدها الالتحاق بالجيش من جديد، لكنَّه فشل. وقد حصل على منصبٍ رفيع في داعش بسبب نجاحه في الساحة السورية، لكنَّ ذلك جاء بكلفةٍ باهظة للغاية.
فوفقاً لعضوٍ سابق في داعش على دراية بسجل أبي عمر الشيشاني، تكبَّد أبو عمر "في المعارك خسائر ضخمة، ولم يكترث بشأنها كثيراً". فخلال عملية قرب مدينة الطبقة، كما قال العضو السابق في داعش، "قدَّم مقاتل ذو خبرة نصيحةً لأبي عمر بشأن التكتيكات والمعلومات الاستخباراتية، لكنَّه رفض النصيحة قائلاً إنَّهم أتوا إلى هنا للشهادة، ولذا لم يهتموا بأي معلومات".
ما بعد سوريا؟
بالرغم من التفاوت في التدريب العسكري قبل الوصول إلى سوريا، سيغادر الشيشانيون في سوريا الآن ولديهم خبرة كبيرة. وفي الوقت الحالي، لدى القديروفيين الباقين في سوريا اليد العليا، لأنَّ معظم المعارضة الرئيسية قد غادرت سوريا. لكنَّ ذلك قد يتغيَّر مع عودة الجزء الأكبر من المقاتلين الأجانب إلى الديار.
بدورها تنظر مجموعة أجناد القوقاز إلى الحرب السورية باعتبارها مركز تدريب حيوي لعمليات مقبلة داخل الشيشان، وبشكل أوسع في روسيا. لكنَّها لا تخطِّط للعودة إلى موطنها في أي وقت قريب، ولن تكون تلك العودة قبل "وفاة بوتين أو وقديروف"، على الأقل، لأنَّه وفقاً لهم، بالنظر إلى الوضع الراهن في روسيا، فإنَّهم ليسوا في وضعٍ يسمح لهم بتغيير أي شيء. في هذه الأثناء، وفقاً لتيمور ماهاوري، الذي شارك في تأسيس مجموعة أجناد القوقاز، فإنَّ "الحرب في سوريا ستنتهي، وسنحتاج للعثور على حربٍ أخرى.. سنطارد القديروفيين في أي مكانٍ في العالم".
وأعلنت عناصر شيشانية بتنظيم داعش عزمها إقامة مقاطعة إسلامية في شمال القوقاز، لكن يبدو أنَّ نجاحهم أمرٌ مستبعد. فغالبيتهم لن ينجوا من سوريا والعراق. وليس من الواضح أيضاً أي جانب سيتخذه داعمو تنظيم داعش عندما تسقط الجماعة. ويحاول قديروف في هذه الأثناء كسب تعاطفهم وتفكيرهم بتنظيم عملية إجلاء عائلات مقاتلي تنظيم داعش الشيشانيين الذين قُتِلوا في العراق وسوريا. وساعد الشيشانيون في المعارضة السورية أيضاً في تهريب مقاتلي داعش الشيشانيين وعائلاتهم من سوريا.
وتُبرَم هذه الاتفاقات غالباً من قِبل أقاربهم في جبال القوقاز، وبطبيعة الحال يجري تبادل الأموال في هذه الصفقات، لكن العلاقات القبلية التقليدية تلعب أيضاً دوراً حاسماً. وتعتقد القبائل أنَّها قد تحتاج إلى التعاون مع أعضاء داعش السابقين لاحقاً للإطاحة بقديروف.
في الوقت الراهن، لا يزال أعضاء مجموعة أجناد القوقاز، وعلى نطاق أوسع، الإشكيريين، يقرِّرون ما هو أفضل للشيشان: القانون العرفي التقليدي أو الشريعة الإسلامية. إلا أنَّ المستقبل السياسي الوحيد الذي توافقت عليه كل القوى المعارِضة هو عداوتهم المشتركة لقديروف.