لا شيء يشبهني هنا.. كنتُ كلما مررت بطريق ما في شوارع عالمي الجديد أقول: لا شيء يشبهني (هنا)، وتسقط تلك الدمعة المدفونة المكتومة داخلي، كثيراً ما كنت أحاول البحث عن شيء، أي شيء يقنعني بأن الغد أفضل، وأن المستقبل سيكون مشرقاً، وأن كل شيء عادة، وسأعتاد المكان، إلا أن الأيام تمضي، ولم يحصل المراد، فغالباً تنتابني الكآبة مجدداً، وكأنني لست أنا.
كل شيء مختلف هنا، حتى الطقس يساعدك على الحزن ، بل يحثّك عليه، ماطر دوماً، والمطر الذي كنا نصلي لأجل أن يهطل، يصلون هنا كي يتوقف، المطر الذي كنا ننتظره في بلادنا؛ لنتمشى مع هطوله بفرح ونحن نضحك لنعود إلى المنزل، والفرح يبطن أفئدتنا.. العكس تماماً يحدث معي هنا، كنت أعود للمنزل غاضبةً حتى من المطر، كل سلبيات وطني تحولت فجأة هنا إلى إيجابيات، كل ما كنت أنتقده في وطني أصبحت لا أذكره، وكأن ذلك الوطن الذي طالما حلمنا بالرحيل عنه عاقبنا؛ ليصبح لنا حلم العودة إليه!
والآن في عامي الثاني هنا بدأت أعاود المقارنة، ولكن من ناحية ثانية، ربما لأنني بدأت أقنع نفسي بأن الغربة ستطول قليلاً، أو أن العودة قد تكون قريبة من المستحيل، أذكر تماماً وأنا صغيرة كيف كانت تحذرني أمي -رحمها الله- لا تتكلمي مع الغرباء، لا تلقي السلام على الغرباء، انتبهي من الغرباء، فأصبح كل غريب كائناً عجيباً ونسينا (تقرأ السلام على مَن عرفت ومَن لم تعرف)، هل الشعوب العربية لا تستحق السلام؟ لأجل هذا لا يعمّ السلام! هنا كل ما مررت في طريق يلقون عليَّ السلام على الرغم من عدم معرفتهم بي.
كنتُ كلما مررت بغريب وابتسم في وجهي تذكرت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "تبسّمك في وجه أخيك صدقة"، داخلياً ودون أن أشعر بدأت رحلتي (هنا).
في وطني كنتُ عندما أنتظر باص النقل العام كمن ينتظر الهدف للوصول بدون هدف انتظار يتبعه انتظار بدون توقيت محدد، وإن كنت تملك الحظ قد ترى مقعداً فارغاً، وإن لم تمتلك ذلك الحظ الفريد تكون رحلتك واقفاً في الحر الشديد مع أنواع المعطرات الطبيعية التي غالباً ما تنعى رحلتك في المنتصف وتقرر استخدام قدميك كوسيلة أنقى وأسرع وأمتع، وهنا تبدأ الإثارة فعندما تقرر قطع الرصيف لرصيف آخر؛ لتبحث عن إشارة مرور تساعدك، تراها تلوح لك على بعد كيلومتر منك، فتختار الاختصار وتستمع لمزيد من المشاحنات الممتعة بين سائقي التاكسيات وهم يتشاجرون على الراكب!!
فجأة تسمع صوتاً من بعيد وصفير السيارة يتبعه كلمة (توووووووت)، المشكلة هي أنك تنظر للسائق باستعجاب لمَ هذا السباب؟! وتمر مغامرتك بسلام.
مؤلم وأنا أكتب هذه الذكريات أن أقارن سلبيات الوطن فقط، ولكن هذه السلبيات هي ركائز الحياة هنا، لا أتخيل نفسي الآن قد أتهور وأقطع الطريق بتلك الطريقة، أو ربما قد أعاود المغامرة التي قد تودي بحياتي.
الفوضى التي اعتدناها في الوطن واعتادتنا لا مكان لها هنا، كثير من الأحيان كنت أستيقظ في وطني لأمسك الهاتف وأقرر الخروج مع صديقات لي، وبعد ساعة نكون وصلنا لوجهتنا دون تخطيط أو تحضير أو مراقبة طقس مجنون، وتكون تلك الفسحات الخيالية كحب أول لا يعرف القيود والضوابط..
(هنا) إذا قررت الخروج عليك التخطيط، وإن وضعت الخطة عليك أن تنظم الوقت على جدول الطقس المشمس، فإن فاجأتك السماء بالغيوم الماطرة فأنت أمام خيارين؛ أن تؤجل ما خططت له، أو تغيّر وجهتك لمكان مغلق، أو تستمتع بالأمطار التي ملأت رئتيك حتى كادت تغرقك ليس مطراً وإنما حسرة على براءة مناخ وطنك.
لا مجال للفوضى هنا، كل شيء مدروس ويمشي وفق نظام، مُسير كآلة، مُراقب حتى كآلة، حتى نظام المحاسبة في وطني ممتع، قد تجد المنتج نفسه في عدة محلات بأسعار مختلفة مع تجاهل عدم وجود الفكة؛ ليعيد لك الباقي، ومع حيائك تضطر للصمت وإن كنت حسن الخلق تلتمس له عذر الفقر، ربما لتريح ضميرك من مشاحنات في فراغ لن تتمكن من إصلاحه بمفردك.
(هنا) كل شيء يتم عن طريق بطاقة البنك فلا أحد يأخذ منك غصباً إلا أعين الدولة المراقبة لك؛ لتقتنص أي فرصة وتنقض مرسلة لك ضرائب مدهشة عدا عن التجسس المبطن، هم يعرفون تماماً كل شيء عنك؛ ليسوا بحاجة لرجل بيده جريدة مقلوبة ينظر إليك عبر ثقب صغير.
يمسك صغيري بقطعة من البسكويت فيرميها أرضاً وأنا كالتلميذة النجيبة أنتشلها لأرميها في أقرب سلة مهملات.
يحضرني عندما كنت أتمشى مع أختي وبيدي بزر الشمس وأنا أجمعه لأقترب من سلة مهملات معلقة على عمود إضاءة ورميتها فسقطت، ولأن السلة مفتوحة من الأسفل فضحكت يومها حتى تساقطت الدموع من عيني تماماً كالآن، إلا إن الفرق بينهما دمعة فرح ودمعة حزن، ووجع كحالنا في الغربة، إذا كان الخيار لنا بين البقاء في الوطن مع كل ما فيه أو الرحيل، سيكون الخيار لمن هو خارج حدود الوطن العودة، ولمن هو داخل حدود الوطن الرحيل.. العين العكسية كل مفقود مرغوب هكذا الإنسان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.