نُصِب التمثال ذو الـ100 قدم، في يوليو/تموز، ليكون شاهِداً على المحارب المقدام المخيف الذي أصبح إلهاً، والآن أصبح هذا التمثال مُغطَّىً بقماشة بيضاء عملاقة.
وقد لاقى تمثال كوان يو -الجنرال الصيني من القرن الثالث المُبجَّل بسبب شجاعته وإخلاصه- مصيره المهين هذا الشهر الماضي، أغسطس/آب، في مقاطعة جاوة الشرقية في إندونيسيا، وفق ما ذكر الكاتب ستانلي وايس، رجل الأعمال ومؤسس منظمة "بيزنس إكسيكيوتيفز للأمن القومي، في مقاله للنسخة الأميركية من موقع هاف بوست.
وبسبب أهمية شخصية كوان يو للبوذية والكونفوشيوسية، اللتين تعبدانه بصفته إلهاً، فقد وصفت الجماعات الإسلامية المتشددة التمثال بأنَّه تمثال كفري، وخرجت في تظاهرات في الشوارع وهدَّدت بإزالته. واستجابةً لهذا الجدل، قرَّر قادة المعبد الكونفوشيوسي الصيني، الذي يوجد به التمثال، تغطيته.
قد تبدو هذه النتيجة غريبة في إندونيسيا، التي هي عبارة عن أرخبيل متنوع يتكون مما لا يقل عن 17 ألف جزيرة ورفعت شعاراً قومياً يقول: "الوحدة في التنوع". وربما يكون هذا التنوع هو السبب الذي من أجله يُعرف البلد الذي يضم أكبر عدد من المسلمين (260 مليوناً) بممارسته لنسخةٍ معتدلة متعددة ثقافياً من الإسلام، وهي نسخة لطالما احترمت حق الأقليات العرقية، بما في ذلك الصينيون الذين يمثلون أقل من 5% من السكان.
سلسلة من الصدامات
ومع ذلك، فقد بدأ هذا الأمر في التغيُّر في السنوات القليلة الماضية. فما حدث في حالة تمثال كوان يو ليست إلا الحلقة الأخيرة في سلسلةٍ من المصادمات التي دمَّرت أو شوهت عدداً من التماثيل. ويُعَد هذا الصعود للأصولية الإسلامية غير مسبوق. وقد أدَّى إلى طرح مشروعات قوانين لحظر الكحول، وفرض الشريعة في بعض المناطق على غير المسيحيين، فضلاً عن سجن أحد النجوم الساطعين في عالم السياسة مؤخراً، ناهيك عما لا يقل عن ألفي إندونيسي تدرَّبوا في سوريا للقتال لصالح تنظيم الدولة الإسلامية "داعش".
لكنَّ الخبر الجيد، حسبما أخبرني خبير سياسي إندونيسي معروف، هو أنَّ "هذه المسائل كلها على المستوى المحلي -أي مقصورة على المناطق الأكثر محافظة- وليست على المستوى الوطني في عموم إندونيسيا. فالأمر كله متعلقٌ بالديناميات المحلية".
وبالفعل، وجدت دراسة حديثة لعموم سكان إندونيسيا، أجرتها مؤسسة إس إم آر سي لاستطلاعات الرأي، أنَّ 2% فحسب من الإندونيسيين متعاطفون مع داعش، بينما يرفضه 95%، وليس من المؤكد ما إذا كان التطرُّف الإسلامي المحلي سيمتد إلى المستوى القومي أم لا. لكن ما لا يمكن إنكاره هو أنَّ عدم الاستقرار المتزايد هذا في ثالث أكبر ديمقراطية في العالم، يمكن أن يُعزى مباشرةً إلى السعودية.
ولطالما وجدت الدولتان نفسيهما على جانبين متعارضين في الانقسام الديني. ولا شيء يعبر عن هذا الانقسام أكثر من "نهضة العلماء"، وهي جمعية دينية أُنشِئت منذ قرن تقريباً، لتكون بديلاً للإسلام المتشدد الذي يوجد في السعودية. وقد أصبحت هذه الجمعية، التي يصل عدد أعضائها إلى 30 مليوناً، أكبر منظمة مسلمة في إندونيسيا ولعبت دوراً أساسياً في تاريخ البلاد (إذ أصبح أحد رؤسائها رئيساً للبلاد في عام 1999)، وقد استخدمت المنظمة، طوال تاريخها، هذا التوجه لمواجهة الجماعات المتطرفة.
لكنَّ تأثير جمعية نهضة العلماء على الحياة العامة الإندونيسية قد تآكل باطرادٍ في السنوات الأخيرة، وإن كان لا يزال كبيراً. ويكمن سبب هذا التآكل في العدد المتزايد لرجال الدين المتأثِّرين بالنموذج السعودي من الإسلام، التي تمارس نمطاً متطرفاً للغاية من الإسلام السني يعرف باسم الوهابية، وهذا النمط هو الأساس لأكثر أنماط التطرف الإسلامي في العالم. وتنشر الوهابية، باختصار، تفسيراً قروسطياً للقرآن، وترفض الحداثة بكافة أشكالها، وتروِّج إلى أنَّ كل غير الوهابيين (بما في ذلك المسيحيون، واليهود والكونفوشيوسيون، والمسلمون الشيعة) ينبغي "كراهيتهم، واضطهادهم، بل وحتى قتلهم"، وذلك بحسب رجل الدين السعودي أحمد علي.
وكما كتبتُ عام 2015، فقد أفادت التقارير بأنَّ السعودية قد أنفقت 200 مليار دولار خلال العقود الثلاثة الأخيرة لتمويل المدارس الدينية الوهابية في كل العالم الإسلامي. وكما قالت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، هيلاري كلينتون، في تسريبٍ نشره موقع ويكيليكس عام 2009، فإنَّ "المانحين في السعودية يمثلون أكبر مصدر لتمويل الجماعات الإرهابية السنية في العالم… وهم مصدر دعمٍ مالي محوري لتنظيم القاعدة وجماعاتٍ إرهابية أخرى". وقد نَثَر هذا التمويل الديني السعودي بذور التطرف السياسي من باريس إلى باكستان، وهو الآن يعمل على إقامة موطئ القدم ذاته في إندونيسيا.
وكما ذكرت صحيفة بوسطن غلوب أوائل العام الجاري، فقد دعمت السعودية أكثر من 100 مدرسة داخلية و150 مسجداً في كل إندونيسيا. لكنَّ مركز الاهتمام يبقى معهد العلوم الإسلامية والعربية في إندونيسيا، وهي جامعة عربية مجانية التعليم، يُفصَل فيها بين الجنسين في جاكرتا، ويتلقى أكثر الطلاب تميزاً تمويلاً لإكمال دراستهم في الرياض، وقد أصبح أولئك الطلاب أساتذة مؤثرين، ووزراء، وقادة سياسيين يمينيين.
وقد بدأت هذه الجهود تؤتي ثمارها على مدى الـ15 عاماً الأخيرة. فقد وجدت دراسة أُجريت العام الماضي، وقادها البروفيسور ديدين سيافرودين، من جامعة شريف هداية الله الحكومية الإسلامية في جاكرتا، في خمسة من أصل 34 إقليماً من أقاليم إندونيسيا، أنَّ حوالي 80% من مُدرِّسي التعليم الديني يدعمون تطبيق الشريعة، وهو "الأمر الذي يدق ناقوس الخطر داخل بعض الجماعات المسلمة المعتدلة" بحسب موقع فويس أوف أميركا.
وفي غضون ذلك، أصدرت الحكومات المحلية حوالي 500 مرسوم محلي، تراوحت بين حظر التجوال مروراً بفرض الحجاب إلى حظر الكحول. ومرةً أخرى، نقول إنَّ هذه التطورات محلية وإقليمية ولم تصل، حتى الآن، إلى المستوى القومي.
لكنَّ هذه التفضيلات المتغيرة قد أدَّت إلى صعود مجموعات جديدة من المجتمع المدني تروِّج لتفسير أصولي للإسلام. فانتشرت، بسرعةٍ، جماعات إسلامية فاعِلة مثل حزب التحرير وجبهة المدافعين عن الإسلام في السنوات القليلة الماضية. وكما قالت مؤخراً كارين بروكس، الزميلة بمجلس العلاقات الخارجية، فقد أدَّى هذا الأمر إلى "تآكل مقلق للتسامح تجاه الأقليات في إندونيسيا". وتُظهِر حملةٌ انتخابية جرت مؤخراً لواحدٍ من أهم المناصب السياسية كيف تُشكِّل هذه التطورات المقلقة خطراً على الديمقراطية الإندونيسية.
فقد دخل الحاكم الصيني المسيحي لجاكرتا، باسوكي تجاهاجا بورناما، المعروف بأهوك، حملة إعادة انتخابه بدعمٍ من الرئيس، مع تقدُّمٍ قوي في استطلاعات الرأي ومعدلات قبول مذهلة بلغت 76%. لكنَّه واجه معارضةً قوية من جماعات إسلامية، لا سيما جبهة المدافعين عن الإسلام، التي عبَّرت عن موقفها ضد ترشحه بعباراتٍ دينية واضحة.
ونظَّمت المنظمات الإسلامية مسيراتٍ تُندِّد به بصفته كافراً. وقالت تلك المنظمات في الشوارع والمساجد إنَّ الناخبين المسلمين ينبغي لهم أن يدعموا مرشحين مسلمين فحسب. وربما يكون الأمر المخيف أكثر من غيره هو أنَّهم رفعوا ضده دعوى قضائية يتهمونه فيها بالتجديف.
وقد نجحت هذه الاستراتيجية، وخسر أهوك الانتخابات، في شهر أبريل/نيسان. وفي شهر مايو/أيار، أُدِين بتهم التجديف وأُرسِل إلى مركز احتجاز، حيث سيقضي العامين التاليين في السجن.
ولما بدأت الجماعات الإسلامية في الحشد ضد أهوك، بدأت الحكومة، التي يقودها جوكو ويدودو، وهو حليف مقرب لأهوك، في الحشد ضدهم. وفي أول شهر يوليو/تموز، مكَّن البرلمان الإندونيسي الرئيس من أن يحظر، من جانبٍ واحد، المنظمات التي تتعارض معتقداتها مع المعتقدات المُعبَّر عنها في الدستور الإندونيسي.
وقد لاقى هذا الإعلان انتقاداً شديداً من منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الإسلامية على حد سواء. لكنَّ ذلك لم يكن ذا جدوى؛ فبعد أسبوع واحد من الإعلان عن القانون، حُظِر حزب التحرير، الذي يدعم إنشاء خلافة إسلامية عالمية، وهي الفكرة التي تتعارض مباشرةً مع الأيديولوجية التعدُّدية للدولة الإندونيسية.
إنَّ عواقب هزيمة أهوك وما تبعها تُثير القلق. فزيادة التعصُّب الديني من الممكن أن تؤدي إلى سياسات هُوية مسمومة. فالجماعات الإسلامية تستخدم بالفعل التكتيكات التي أطاحت بأهوك وحكام آخرين منتمين للأقليات في كل البلاد. ومن الممكن لهذه العواقب أن تكون مخيفة بالنسبة لكلٍّ من شاغلي المناصب من الأقليات، وأيضاً لعملية انخراط الأقليات في الحياة السياسية.
ولم تكن الزيارة التي قام بها الملك سلمان بن عبد العزيز إلى إندونيسيا، وهي الزيارة الأولى من نوعها منذ 47 عاماً، مفيدة في هذا الصدد. فقد أعلن الملك عن استثماراتٍ إضافية للسعودية في إندونيسيا بقيمة 6 مليارات دولار، بما في ذلك تمويل تجديد الحرم الجامعي لمعهد الدراسات الإسلامية والعربية في مدن ماكاسار، وسورابايا، وميدان. وكالمعتاد، تعهَّد الملك بالمساعدة في مكافحة التطرف.
إنَّ الحكومة الإندونيسية في حاجةٍ لأن تكون حذِرة في عدم السماح للرياض بخداعها. وفي حال سمحت بذلك، فلن يكون تمثال كوان يو هو الشيء الوحيد الذي يعود إلى العصور الوسطى.