21/8/2013
يقرع ناقوس ذاكرتي الباطني بشدة رهيبة، وأعبر في تلافيف دماغي وأرى ذلك الماضي السحيق الذي كان يكتظ بتلك الطلاسم المتأرجحة على جدار رأسي المنهك.
رأسي الذي كان يطفح فيه مئات المجازر اللامتناهية، والتي يصعب تفسيرها لكثرة قساوتها وشظفها وصعوبة اندمالها مع حياة الشعب السوري الأبي.
بجهد دؤوب ولحظات.. قامت جوارحي وذهني بتفكيك تلك الطلاسم المتقوقعة داخل نفسها.
تقول ذاكرتي: بناء على مسترجعات ماضي 21/8/2013 إن ذلك التاريخ كان هواؤه قد خبأ لنا في طيات نسائمه عبق الموت الذي تسلل إلى أجسامنا عندما استنشقناه.. "الكيماوي".
21/8/2013
تاريخ قضم بأيامه فلذات أكبادنا
تاريخ يعيد الموت إلينا ونحن أحياء
تاريخ سحق المئات من عوائلنا.
صنع اليتامى والأرامل والثكالى والشهداء بنيف من اللحظات.
كم كنت قاسياً وأخطأت بحقنا أيها "الكيماوي"، أتحدث ولأني كنت جزءاً من الواقعة، تتقهقر بي الذاكرة لمساء الأربعاء.. كنت أعمل ممرضاً في تلك المشفى الميداني.
كان الأربعاء يوم مناوبتي، وما إن خلدت إلى النوم حتى استيقظت من غفوتي على تلك الفاجعة العظيمة.
وقفت صامتاً أحدق بعناية لا أصدق ما أرى ولا أعرف ما جرى، بثوانٍ معدودة وطرفة عين امتلأت ساحة الإسعاف بأشخاص مصابين مفجوعين.
لحظات قليلة وتتزايد أعداد المصابين أكثر، إلى أن امتلأ ممر المشفى وساحته الخارجية التي تبلغ مساحتها ما يقارب 100 متر.
والناس يفترشون الأرض، ويتنوعون بين شهيد وناج، بين طفل وامرأة، بين شيخ وشاب، كنت أسير بينهم أكاد أصعق من هول المشهد، كنت أضع راحة يدي على شفتي اللتين ترتجفان واضغطهما، شعرت بأن عيني كادتا تنفجران من عظمة الفاجعة.
كنت حينما أريد أن أمشي أرفع قدمي التي ترتجف في ارتباك وحيرة، ولا أعرف أين أضعها؟ أخاف أن أدوس جسداً جريحا أو أنتهك حرمة شهيد من كثرة المصابين والشهداء.
كنت أرى الناس سكارى وما هم بسكارى.
رأيت أطفالاً لم يدركوا الطفولة ترتديهم البراءة بعمر الأشهر، شاهدت وجوههم وشفاههم الزرقاء التي اشتمّت الكيماوي ولم يصلها الأكسجين، رأيت عروساً بفستان زفافها، رأيت أطفالاً بلا أم وأماً بلا أطفال، رأيت شيوخاً وكهولاً، رأيت شباباً وبنين، سمعت ما لم تسمعه أذن، وتشاهده عين، لم يرحموا أحداً أبداً حتى الحجر اشتم رائحة الموت.
رأيت زملائي وأطبائي يستنشقون ويموتون، رأيت بعيني ما لم تعرف أن تكتبه يداي، رأيت ورأيت ورأيت..
كان ذلك اليوم العصيب أشبه بقنبلة هيروشيما، كان ليلاً دامساً بالألم وساكناً بالحقد يعج بالموت يمنع الحياة ويحتكر الهواء، كان ذنبنا وجرمنا أننا نطقنا بكلمة (حرية).
ما أقبح تلك النوائب التي سربلها القدر إلينا، كم كانت قاسية على قلوب أنقى من الندى! كم كانت مجحفة بحق الأبرياء!
كم أحزنني أولئك الأطفال الذين استنشقوا غاز الموت ولم يزفروه، وتلك العروس التي كانت بفستان زفافها تنتظر فرحها وزوجها فسبقها الموت مهرولاً إليها، وأولئك الشبان والكهول والسيدات والمسعفون الذين غفل عنهم قلمي ناموا ولم يستيقظوا.
لم يكن هناك سوى تلك الدموع التي كانت تغبش رؤيتنا، ونحن نسعف المظلومين، وتلك المشاعر التي ترجف أيدينا والصرخات التي تكوي قلوبنا، والأطفال الذين جعلونا نشهق من بكائنا، والنساء اللاتي مزقن فؤادنا، والشباب الذين كَووا أكبادنا.
ذلك اليوم العصيب جعل عدونا يمزقنا بعنفوان وفن متقن، وما من أحد يمنعه من ذلك، كان ذلك المجرم يبدع وهو يؤلمنا، كان الموت كالوحوش التي تقضم الزهور بعشوائية مطلقة فذة.
اليوم /21/8 /2017
تشهد الشمس كسوفا ً يستمر لأكثر من 90 دقيقة وهذه ليست ظاهرة طبيعية فحسب، بل انكسفت الشمس خجلاً وتضامناً مع الشعب الذي كان سلاحه حناجر تصدح بعبارات الحرية.
أبت تلك الشمس أن تسطع على وجوهنا التي أهرقها الهم والغم والكآبة.
عندما تتلفظون وتتحدثون عن غوطة دمشق وخان شيخون ابدأوا بكلمة الله أكبر، وحينما تنتهون اختموها بالسلام عليكم ورحمة الله، تماماً كما تفعلون في الصلاة.
لعل سلامكم يصل لأرواح تشكو لربها ظلم البعيد وخذلان القريب.
وداعاً بلا لقاء أيها الحرب الكاوية، وسلام علينا يشبه سلام النار على سيدنا إبراهيم الخليل، وسلام علينا يوم نُولَد ويوم نموت ويوم نُبعث أحياء.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.