ذكريات في صندوق

تلك السذاجة التي تهرب وهربت منها طوعاً دون رجعة، تلك اللحظة التي مزقت فيها أول ورقة امتحان وأول ورقة أيضاً مزقت فيها طفولة عنيفة، عن عنفوان الشباب والابتسامة الكاملة، تلك العواصف التي اجتاحت روحك بعد إحدى عشرة دقيقة، عن الفرحة التي كانت وليدة غير شرعية لحياتك، عن أول الحروب وآخر المنفى الذي عشت فيه وجربته.

عربي بوست
تم النشر: 2017/08/31 الساعة 02:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/08/31 الساعة 02:16 بتوقيت غرينتش

لكل منا يا بُني ذكريات في صندوق، تلك الذكريات التي أحببنا أن نشاركها مع الزمان بدون المكان؛ لتبقى خالدة خلود حدائق بابل.

تلك الأشياء الموحية بالحياة، التي تعود بنا إلى الطفولة المنسية التي لم نكد ننسى تفاصيلها كلعبة من صديق ووردة من أنثى أو رجل أو رسالة من عشيقة أو عشيق.

عن قُبلةٍ اخترقت قلبك من بروكاست أو آبروع، هذه القبلة لم تضعها في صندوق أو ما شابه؛ لأن شفتيك كانتا كفيلتين بأن تخبئا الطعم والشغف لكونها في مكتبة مع ميثوس بطلك المجنون.

ستضع في صندوق ذكرياتك الصارخة والجميلة إن وجدت، عن الهوية المفقودة بكونك عربياً تبحث عن جنسية في بلادٍ منذ أن فتحت عينيك وهي في حرب قذرة، قتلت حتى أحلامك قبل وبعد ولادتها.

صندوق ذكرياتك الذي فيه جميع الثرثرات التي واجهتها في حياتك القصيرة الطويلة التي انتهت قبل البداية.

عن الأغاني العتيقة وفنجان قهوتك المفضل وشخصيتك الكلاسيكية والعصرية، تلك الشخصية البائسة والفرحة نوعاً ما، عن مرضك بالوحدة وعدم الازدواج بكون فهمك أن الآخر جحيم وإن وجد عكس ذلك فهي المعجزة.

عن السلام الذي لم تنعم به وأقلامك التي خبأتها بعد ما انتهى حبرها، خبأتها لكونك بكل بساطة لا تستطيع التخلي عن تلك الأشياء التي كانت سبب ثورتك الفكرية فباتت جزءاً منك.

عن أول معركة خُضتها مع نفسك وأول فشل وعاشر فشل ذقته ولم تيأس، أول معركة جربتها مع القدر وخرجت منها مهزوماً، ربما عن أول عملية انتحار عقلية.

عن التلفاز الذي لم يكن في منزلك لتتابع الكرتون المضحك الممل، عن الروايات الروسية العربية في تلك الفترة التي أخذت روحك.

تلك السذاجة التي تهرب وهربت منها طوعاً دون رجعة، تلك اللحظة التي مزقت فيها أول ورقة امتحان وأول ورقة أيضاً مزقت فيها طفولة عنيفة، عن عنفوان الشباب والابتسامة الكاملة، تلك العواصف التي اجتاحت روحك بعد إحدى عشرة دقيقة، عن الفرحة التي كانت وليدة غير شرعية لحياتك، عن أول الحروب وآخر المنفى الذي عشت فيه وجربته.

ستتذكر إثر ليلة بيضاء رأيت فيها كل البشرية مثل الآلة تماماً، لا يظهر على أحدٍ أنه يتنفس ولا يمشي، بل كلها ضحكات استفزازية بل ميكانيكية قابلة للتعطيل.

ستتذكر تأويل الحروف والمبالغة اللاذعة في الكلمات، ذلك الصدوق الذي وجدت فيه ذل أرضك والعيشة الميؤوس منها، ستسأل بلهفة عارمة أين وطني؟ ستجده في النشيد فقط ربما في موطني، عن أحلامك النضالية نحو تحرير ما تبقى من أرضك، عن أهدافك المجنونة في تغيير المجتمع الهمجي.

تلك الذكريات التي رقصت فيها وأطربت نفسك، عن الخوض في تجربة الجنس وظلمت نفسك؛ لأنك اكتشفت أنها زلة حمقاء وعرفت أنها "التفاحة المحرمة".

عن مرضك البالغ في الهوس، حين تمسك لوحتك البيضاء لتصبح سوداء، سواد شعر أنثى لم تبلغ بعد وليست مشروع زواج، عن وجودك المعدوم وأنت صاحب قضية، عن الضعف الذي بات قوة وحشية.

تلك الذكريات التي وجدت فيها أشخاصاً أحببت وجودهم فتخلّوا عنك في أشد يأسك، تعلمت أنه "من زغب الذرة تنبت الشمبانيا القوية".

عن وقوفك أمام المرآة بعد دهرٍ مر عليك لم تقابل فيه وجهك، فحين رأيت وجهك وانعكاس نفسك مرتين صدمت بالتجاعيد والشيب.. لقد ذهب الشباب في صندوق ذكرياتك.

عن طفولتك المنسية في الميتم وعن بحثك بين المشافي عن ورقة تثبت هويتك الأصلية، عن مرض السرطان الذي فتك بعزيز عليك وجعله طريح القبر، عن عاداتك السيئة والمزاجية وأكلك للبطيخ بهمجية، عن صوتك البشع في الأغاني، عن آخر مقعد لك في القسم ورسمك المضحك على الطاولة، عن عراكك المتواصل مع أستاذ الرياضيات؛ لأنك سئمت جدول الضرب، عن اليومي الذي أعاق وأرهق عروق دماغك، عن تدوينتك حول كسوف الشمس والقمر وازدواج النجوم، عن جوعك وبردك ومرضك وحنينك إلى خبز أمك، عن الغربة في وطنك والهجرة إلى وطن آخر تبحث فيه عن كرامة، عن صراخك في الظلام والجري في الصباح وجلوسك مع نفسك تحدث نملة عن فيل.

بعد دقيقة واحدة ستغلق هذا الصندوق، ستنزل دمعة تحرق وجنتيك بسرعة، ثم تتأوه من الداخل بحماس فقد الراحة، ستعترف أن كل ما أنجزته كان رائعاً وستعرف أنك خبأت في هذا الصندوق الانفعالات والنجاحات وفلسفتك الخاصة.

لكن تذكر أن هذا الصندوق يحمل ذكريات بشرية جمعاء، وأنك نقطة تدور حول ذكريات كل شخص فوق هذه الرقعة.
إذا أكملت لا تعُد إلى هذا الصندوق.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد