العزلة دين الأحرار

العُزلة أيها السادة هي طقس إنساني سامٍ يدعو صاحبه إلى الانفلات من التعدد الوجودي إلى التبدد والانفصال عن الأحداث المتتابعة زمنياً بحيث تخلق لنفسك زمناً خاصاً بك وغير مرتبط بالخارج عنك، لا سبب ولا نتيجة ولا أفعال ولا انفعالات كل القضية تكون محصورة في إقليمك الداخلي والمحدد بما شئت أنت من حدود إن أردت وجودها، وأما ما خارج ذلك فلا يعنيك مهما كانت درجة ارتباطك به، تُلبسه ثوب اللامبالاة الرمادية وكأنك سيد الأرض وما دونك وما فوقك وهم، ولا حقيقة تتجسد حينها إلا فيك ومنك وإليك.

عربي بوست
تم النشر: 2017/08/26 الساعة 04:44 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/08/26 الساعة 04:44 بتوقيت غرينتش

هل قمتَ بتجربة التجرّد من الحياة، والولادة من رحم نفسك كل فترة؟ هل انقطعت عن النمط التقليدي الممل والسريع والسطحي في غالبيته من طرائق العيش وممارسة حق وجود الروح في الجسد؟ هل سعيت مرات ومرات للانقطاع عن الكائنات الاجتماعية من محيطك العام والخاص؟ هل دخلت في هفواتك التي تعتمد على هدوئك وخيالك وكمية اليأس والتشاؤم والأمل والكره والحب واللامبالاة والفضول وغيرها من المشاعر التي تتجسد فيك، وكأنها تتحول لأدوات مادية تلمسها وتتعمق في نظرك إليها، تستلها من داخلك وتتفحصها بدقة ثم تعيدها، كأن رأسك صندوق سحري تستطيع إيجاد الشيء واللاشيء فيه بلا تعب أو جهد؟ هل حاورت نفسك بأصوات مختلفة وخضت معها جدالات ونقاشات طويلة إلى حد الخصام أحياناً وأحياناً إلى حد الوحدة والتناغم، هل مارست طقوسك الفردية بعيداً عن المتطفلين وعاينت روحك بأجهزة من ورق وحبر؟ هل مارست الانعزال الإرادي في مكانك الذي تفضله وبجانب أشيائك التي تتواصل معها بأسلوبك الخاص؟

تشير كلمة العُزلة لغةً إلى الابتعاد عن الآخرين والانقطاع عن العالم لفترات يحددها الشخص نفسه، والفرق التام بين العزلة الإرادية واللاإرادية تتحدث عنه الأسباب، فالانعزال بسبب الحزن أو فقدان شخص أو الخسارة العاطفية أو الفشل العملي أو غيرها من النكبات الحياتية التي يمر بها بعض الأشخاص هي ليست المقصودة هنا، بل العزلة المقصودة هي الإرادية التي تتملكك بدون وجود سبب مباشر لها، ولكنها طبع أو أسلوب شخصي بالتعاطي مع النفس الداخلية والحياة الخارجية، بحيث كلما اقتربا من بعضهما وتلامسا وتلوثت النفس بالازدحامات والضجيج كان واجباً فتقهما مجدداً وإعادة المسافة بينهما لتحقيق التوازن بين الداخل والخارج، وهذه هي إحدى المعارك بين الغبار والضوء.

أما في ظل هذا الانتشار الواسع للتكنولوجيا والإنترنت والهواتف الذكية باتت العزلة أمراً نادراً جداً عند الأشخاص، فكما أنها تعني الانقطاع الإرادي عن الواقع المحيط أيضاً هي تعني الانقطاع عن الواقع الافتراضي المتمثل ببرامج التواصل الاجتماعي، في الحقيقة أنا أجد تعبير العزلة الإلكترونية نافعاً جداً هنا، يكفي أن تفكر بأن العالم الافتراضي بجميع تفاصيله وأشخاصه يختفي عندما تقطع الإنترنت عن هاتفك الذكي، وكأن الإنترنت هي روح ذلك العالم وبعدميتها ينعدم، بالتالي هو عالم هش جداً وغير مستمر بقدر ما هو آني ولحظي وتسيطر عليه المشاعر الإلكترونية السطحية.

العُزلة أيها السادة هي طقس إنساني سامٍ يدعو صاحبه إلى الانفلات من التعدد الوجودي إلى التبدد والانفصال عن الأحداث المتتابعة زمنياً بحيث تخلق لنفسك زمناً خاصاً بك وغير مرتبط بالخارج عنك، لا سبب ولا نتيجة ولا أفعال ولا انفعالات كل القضية تكون محصورة في إقليمك الداخلي والمحدد بما شئت أنت من حدود إن أردت وجودها، وأما ما خارج ذلك فلا يعنيك مهما كانت درجة ارتباطك به، تُلبسه ثوب اللامبالاة الرمادية وكأنك سيد الأرض وما دونك وما فوقك وهم، ولا حقيقة تتجسد حينها إلا فيك ومنك وإليك.

الفردية، هي الكلمة التي تعبر عن حقيقة وجودنا وطبيعة حاجاتنا الحقيقية وعن بواطننا المخفية، فنحن لا نكون على حقيقتنا الكامنة إلا عندما نكون متفردين ومعزولين عن الناس، وفي ظل هذه الحياة السريعة والمزدحمة، نحن لا نعيش فرديتنا إلا ما ندر، وكأننا دُمى متحركة، خيوطها متصلة مع دُمى أخرى وأخرى وهذه الخيوط قد تكون العمل أو العواطف أو الصداقة أو المصالح أو غيرها، جميع حركتنا الخارجية مقترنة بطبيعة الخيوط التي تربطنا بالأشخاص من حولنا، إنها حركة غير حُرة ولا تعبر عن حقيقتنا التي نسعى إليها من الداخل؛ لذلك أستطيع أن أقول عن العزلة إنها السيف الذي يقطع تلك الخيوط لفترات مؤقتة، بحيث نصبح أحراراً من الشبكات المرتبطين بها لنعيش فرديتنا بقدسية، فالعزلة أيها السادة هي فعلاً دين الأحرار.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد