بين بركان إتنا في صقلية وبراكين بلادي الخامدة

أنا لا أنتمي لأَعلام وحدود وضعها المستعمِر بعد خروجه من الباب لتُسَهّل له عودته من النافذة، وطني الإسلام حيث أجده مطَّبقاً كدولة، أياً ما كان ذلك الوطن، يكفي أن يكون مكاناً يعتز ويعبّر عن الإسلام الذي أفهمه وأُريده وأومن به!

عربي بوست
تم النشر: 2017/08/22 الساعة 03:32 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/08/22 الساعة 03:32 بتوقيت غرينتش

من نافذة الطائرة المحلّقة في السماء قبيل دقائق من وصولها مدينة كتانيا في شبه جزيرة صقلية في جنوب إيطاليا، التي فتحها البطل أسد بن الفرات في القرن الثامن للميلاد، صاحب مقولة: "أنا أسد وهو خير الوحوش، وأبي الفرات وهو خير المياه، وجدي سنان وهو خير السلاح"، حينها كان في السابعة والستين من عمره بعد أن نادى منادٍ للجهاد في سبيل الله أن هلمُّوا لفتح صقلية.

ولم يَدُم حكم المسلمين فيها طويلاً قبل سقوطها، لكن أثرهم بقي واضحاً في الاقتصاد والزراعة والعلم والفكر وحتى العادات واللغة.

من تلك النافذة، لاح جبل مَهيب من بعيد، كان يكبر كلما اقتربنا حتى بات عملاقاً رائعاً، سألت صديقنا الإيطالي رفايلو عنه، فأخبرني أنه بركان إتنا، أكبر بركان في قارة أوروبا وأكثرها نشاطاً حتى يومنا هذا؛ حيث إن انفجاراته المتعددة تكون مصحوبة بتدفق هائل للافا البركانية من فوهته، إتنا من البراكين النادرة ذات التاريخ الحافل بالانفجارات؛ حيث كان أول تدوين بشري لانفجار له قبل 20000 عام.

إتنا البركان صاحب أطول تاريخ مسجل للانفجارات المستمرة، ويعتبر -بعد بركان كيلوا في هاواي- ثاني أكثر البراكين نشاطاً في العالم، لدرجة أن أخطر وحوش الأساطير الإغريقية، الوحش تايفوس ذو المائة رأس، كان الإله زيوس قد حبسه تحت هذا الجبل، إتنا الذي يعني بالعربية جبل النار.

وبعد عدة سنوات من الهدوء -غير المعتاد منذ عقود- على بركان إتنا جاء عام 2017 منذ بدايته؛ ليذكرنا بالوحش المأسور أسفله؛ حيث تدفقت اللافا البركانية، وتطاير الرماد ليغطي المدينة لدرجة أن يتوقف المطار كلياً، هذا المطار المعتاد على تعليق الطيران فيه بين كل فترة وأخرى بسبب سحب الرماد الصادرة من إتنا.

ومع كل هذا الخطر الغامض والمتفجر الذي يحمله هذا البركان، فإن السكان المحليين للمنطقة يسمونه (مونجيبلو Mongibello)، أي الجبل الجميل، هم يزرعون الزيتون والعنب والفواكه في التربة المشبعة برماد هذا البركان، ويتسابقون كما السياح على نيل شرف رؤيته وهو يتفجر باللافا من فوهته على خطورة هذا المشهد.

إنهم يحبون بركانهم الناري المتقلب المزاجي لدرجة أن بعض السكان عند بداية الانفجارات يجهزون موائدهم في منازلهم فيفرشونها بالشراشف البيضاء الناصعة ويتركون أفضل أنواع النبيذ الأحمر كهدية للبركان، قبل أن يتركوا منازلهم للمرة الأخيرة قبل أن تغمرها اللافا إلى الأبد.

إنهم يعيشون على سفح بركان نشط متفجر ويعرفون أنه قد يثور في أية لحظة، ومع هذا تجدهم يعيشون حياتهم بسعادة دون قلق، يأكلون ويتزوجون ويعملون، بل يبنون المنازل والمصانع ويزرعون الأراضي، يحبون الحياة لدرجة أنهم في انفجار سابق للبركان في القرن الماضي قام أهالي المدينة بمحاولة بناء ممرات لتحويل مسار اللافا لتبتعد عن مدينتهم، بدل أن يهربوا لينجوا بحياتهم.

تذكرني كتانيا ببلادنا كثيراً، تكفي أشجار الزيتون التي تراها على مد البصر، هم لديهم بركان نشِط، ونحن لدينا براكين نشِطة أيضاً من فساد وحُكّام مُتَجَبّرين، لكن سكان كتانيا لا يهربون، أما نحن فنبحث عن أدنى فرصة للفرار، لربما قدّر الله الطبيعة على قسوتها وعظمتها ومَسحِها لكل الوجود البشري أو حتى الأحياء عامة؛ لتكون أرحم من بني الإنسان في ظلمهم لبعضهم البعض.

أتَذَكّر سوريا ومصر تحديداً، ويَحضُرُني غسان كنفاني في (رجال في الشمس)؛ لأسأل السؤال العظيم: لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟ لماذا يهاجرون في عرض البحر ليموتوا غرقاً؟ ما حلاوة الدنيا التي يبحثون عنها؟ وما الكرامة التي يقصدون؟ أن يموتوا قتلى في بلادهم أم غرقى في البحر أم اختناقا بين جدران الخزان؟
لتتناهي إلى سمعي أغنية: (بِكْتُب اسمك يا بلادي ع الشمس الْمَا بِتْغيب، لا مالي ولا ولادي على حبك ما في حبيب!)
لكنهم يهربون من أجل أولادهم وأموالهم، عن أي بلاد وأوطان نتَشَدَّق؟
حب أهل كتانيا لمدينتهم على خطورتها جعلني أعيد تفكيري في حب الوطن.
هل على وطني أن يكون جَنّة حتى أُحِبّه؟ كأولئك الذين لا يفتأون ينشرون صور حيفا ويافا ويتغنون بطبيعة فلسطين الرائعة وينسون أن هذه المدن التي نراها الآن قد بناها اليهود وجمّلوها. قد يكون وطني صحراء قاحلة قبيحة، هل سأكرهه حينها وأبحث عن وطن آخر أجمل؟ هل يختار المرء وطنه؟ أم أنه حيث ولدتُ وكبُرتُ وترعرعت؟ فيَستَمد هذا الوطن قيمته من ذكرياتي فيه وعلاقاتي مع ناسه وأماكنه؟ لكن، إن كان وطني هو حيث عِشْت، إذن ما هي فلسطين بالنسبة لي؟ أم هو مسقط رأس أجدادي؟ حتى لو لم ترَه عيناي في حياتي، بل ربما لن أستطيع رؤيته أبداً، أم الوطن حيث نُعمِّر ونبني أيّاً ما كان ذلك المكان؟ أم هو حيث نشعر بالحرية والكرامة؟ كما يقول المهاجرون واللاجئون والهاربون، الذين طلَّقوا أوطانهم طلاقاً كاثوليكياً حتى باتوا مواطنين لبلادهم الجديدة باللغة والفكر بل والدِّين أيضاً حتى لو ادَّعَوا غير ذلك.

فقد أثبتت إحصائية أكاديمية تتابع أفراد الجيل الثالث من المسلمين المهاجرين إلى الولايات المتحدة الأميركية أن تسعة من كل عشرة أفراد من الجيل الثالث قد فقدوا تماماً كل ما له صلة بدين أجدادهم وكل هوية تربطهم به؛ لأتذَكَّر د. أحمد خيري العمري في كتابة (تسعة من عشرة) ذلك الكتاب الصغير المُبكي المُحزن الصّادم والقاصم، فحتى الرسول الأعظم محمد هاجر من مكة إلى المدينة؛ ليبني دولة الإسلام، لكنه قام بالبيعتين قبلها ليتأكد أنها ستكون جاهزة لحضن الدولة الإسلامية، وإلا كان هاجر إلى الفرس أو الروم؛ ليبني دولته تماماً كما يفعل المهاجرون الآن، الذين يدَّعون أنهم يهاجرون أسوة بالرسول عليه الصلاة والسلام.

يسألني زوجي ربما للمرة الخمسين: ألا تشعرين بعلاقة خاصة مع القدس كونك من عائلة مقدسية؟ أجيبه للمرة الخمسين، عن مدينة لم تطأها قدماي، ولم تبصرها عيناي حتى الآن: ما يربطني بالقدس هو الإسلام. ذلك الدين العالمي الذي جاء ليرتقي بالإنسان حتى لا يرتبط بالمادة الزائلة بل بالأفكار والمبادئ، ما يربطني بالقدس كونها مقدسة في ديني؛ لذا أفديها بحياتي، ففيها ثالث الحرمين ومسرى الحبيب، وما يربطني بفلسطين عامة المعركة الأبدية التي ذكرها القرآن بين المسلمين واليهود، تلك التي لا بد أن أصطف فيها إلى جانب الحق كوني مسلمة.

أما كوني عربية أصلي فلسطيني فلا يعني لي ذلك شيئاً، فما كان للعرب قيمة وشأن لولا الإسلام، ولم تكن بلادنا بوضعها الحالي لولا وعد بلفور وسايكس بيكو اللذَين أتيا بعد إسقاط دولة الخلافة الإسلامية.

أنا لا أنتمي لأَعلام وحدود وضعها المستعمِر بعد خروجه من الباب لتُسَهّل له عودته من النافذة، وطني الإسلام حيث أجده مطَّبقاً كدولة، أياً ما كان ذلك الوطن، يكفي أن يكون مكاناً يعتز ويعبّر عن الإسلام الذي أفهمه وأُريده وأومن به!

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد