حكاية الحفّارين وصاحب السلاح

بمرور الوقت، يغدو الحفر ديننا وديدننا، يصير مهنة من النوع الذي يسيطر على الكيان كله، يصبح هوية جماعية، شعورية أحياناً ولا شعورية في الغالب، لكن معناه يترسخ حتى يقضي على كل هوية أخرى.

عربي بوست
تم النشر: 2017/08/22 الساعة 03:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/08/22 الساعة 03:06 بتوقيت غرينتش

(يتكون العالم من صنفين من الناس: الذين يملكون السلاح، والذين يحفرون).

هكذا خاطب بطل فيلم رعاة البقر الشهير رفيقَه، قبل أن يأمره بالحفر وهو يلوّح بمسدسه.

****

– ماذا تملك أنت؟ يقول أحد المتفرجين لصاحبه!
* سأحفر، يجيب بسرعة ضاحكاً.
– يرد الأول في يأس: سنحفر جميعاً!

****

يحفران.. وأحفر.. وتحفرون.. ونجمع أطفالنا ونساءنا وشبابنا وشيوخنا ويحفر الجميع، بمعاول من صدأ، وفؤوس أثقل على الكاهل من الغمّ على القلب، وبكل حديد وخشب وعود، بل وبأظافرنا التي أدماها الكد!

بمرور الوقت، يغدو الحفر ديننا وديدننا، يصير مهنة من النوع الذي يسيطر على الكيان كله، يصبح هوية جماعية، شعورية أحياناً ولا شعورية في الغالب، لكن معناه يترسخ حتى يقضي على كل هوية أخرى.

ونعتاد.. نألف الاضطجاع على التراب، نألف ربط الحجارة على البطون، نألف التعب والمرض والسقم والحزن المقيم، نألف حتى السياط التي تجرح ظهورنا كلما همس أحدنا للآخر قبل إذن راعي البقر.

أي راع؟
أنسيته؟
بطل الفيلم المذكور أعلاه.. أعلاااااه!

وكلما استخرجنا كنزاً من الحفر المضني، نرفعه للبطل، يشعل سيجارته ويبتسم، فنهلل فرحاً.. نفرح حقاً، في البداية كان فرحنا من أجلنا، فابتسامته قد تقينا من سوط غادر، ثم من فرط الجهل والعار والمسكنة نصير نفرح لفرحه، ولو أهان أو غدر.
يصير هو المبتغى والطريق، ونفنى فيه، فناء الفقير المريد في الشيخ القاسي ذي الكرامات، فناء الذليل في حب مَن يذله، فناءً مازوشيا كامل الأركان.

****

لكن هناك دوما حياةً تدبُّ بين ثنايا الموت، والله يخرج الحي من الميت، ويحيي الأرض بعد موتها!

جذوة صغيرة في رماد كثير، وريح طيبة تمر عليها فينبعث منها شرر مستصغر، ومعظم النار من مستصغر الشرر.

يولد فينا مَن لا يرى نفسه حفاراً ابن حفار، من به بقية فطرة أولى فقدناها تحت القهر المستمر، بقايا كرامة تلملم نفسها، فترفع بصرها من حضيض القاع، وتنظر باتجاه الراعي المسيطر.
والراعي يعرف هذه العيون، ويعرف هذه النظرة، ويعرف ما خلفها.

يصرخ فيه.. يأمره.. انظر أسفل منك.. عيناك إلى الأرض.. لا ترفع بصرك..
تظل عيناه شاخصتين في كبرياء.. يغضب الجلاد.. يضربه بالسوط.. لا يتراجع..
يمد يديه ليتسلق الحفرة.. ليصعد.. ليرتفع.. ليعلو!

ينظر الحفارون إلى بعضهم البعض..
يرتعد بعضهم..
ينتظر بعضهم..
يتعجب بعضهم..
يقترب منه بعضهم..
يبتعد عنه الآخرون!!

تأتي صيحة الزعيم مجلجلة في آذان القوم.. فتأخذهم هزّة ذلّة ارتدت ثوب عزة!

أيغضب زعيمنا؟
أنسمح لهذا بأن يزعج راعينا؟
ألسنا أهل فأس ومعول؟
ألسنا أبناء الحفارين؟

يجتمعون ويجرّون الفتى.. يقدّون قميصه.. يطرحونه أرضاً.. يطأونه.. يسحلونه.. يطفئون الوهج بعينيه.. يطفئونه!

ثم يصيحون: لبيك!
وينظر الراعي إليهم ويبتسم
أخذنا بثأرك سيدنا، فما لنا؟ ما لنا؟
ينظرون إليه في طمع..
يخرج سيجارته من فمه، ينفث دخانها نحوهم، ويقول ملوّحاً بسلاحه:

(الناس صنفان: الذين يملكون السلاح، والذين يحفرون، وأنتم ستحفرون!).

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد