يميل بعض الإخوة العرب، إن كان في مصر أو العراق، إلى التشنيع على الحركات الجمهورية التي أطاحت بالحكم الملكي، والذي وفّر حسب قولهم، شيئاً كبيراً من الاستقرار الذي فتح الأسواق وأغرقها بمنتوجات من الصناعة الوطنية، الأمر الذي رفع سعر العملة المحلية، ويستشهدون بصور ملوكهم وهم يتقلدون الأوسمة ويتم استقبالهم في العالم الغربي المنهك حينها من نتائج الحرب العالمية الثانية المُدمّرة بكل المقاييس، ويتابعون بأمل، أن تلك الثورات لو أمهلت الملكيات تلك بعض الوقت لكانت مجتمعاتنا الآن أفضل، متناسين وبشكل غير منطقي، أن أجدادنا كانوا رقيق أرض عند إقطاع الأرض، وأن تلك الفئة الحاكمة غريبة عن الأرض والشعب، وأنها أتت للحكم دون مشورة من الشعب ودون إرادة.
الشعب حينها كان ضيفاً في أرضه، وأن لا سيادة لتلك الأنظمة ولا إرادة.
إذن ماذا فعلت بنا الأنظمة الجمهورية؟
لا شيء، لم تفعل تلك الحركات الثورية الجمهورية شيئاً إلا استبدال المستفيدين السابقين بمستفيدين لاحقين، أما حالنا الحضاري الرث، فالأنظمة الجمهورية بريئة منه، فحالنا هذا لم يكن وليد ثورة ما أو انقلاب أو أي تحول سياسي، فالمواطن المصري لم يكن يوماً يملك من أمره شيئاً على زمن الملكية، ولم يكن كذلك على عصر محمد علي ولا حتى أيام السلطنة العثمانية، نحن، وأقصد بنحن الآن، نتاج عصور من القهر المنظم الذي مارسه ضدنا، كمجتمع، كل مَن حكمنا وكل مَن ولي أمرنا وكل مَن ساعده من مشايخ ديننا وكل المتسلقين والمستفيدين ومحترفي اللعب على التناقضات.
في اعتقادي أن نكبتنا بدأت عندما حورب المعتزلة كرواد عقل، وأصدر المتوكل فرمانه بتحديد الشريعة المُعتَرف بها، كتحدّ صارخ لأبسط قواعد الحرية والدين، وبدء الحرب على كل المخالفين باسم الدين وباسم الله، والله بريء من كل ذلك.
هم لم يكونوا يدافعون عن الله والله نفسه لم يطلب من أحد أن يدافع عنه، هي ببساطة سليقة المستبد التي ترشده دائماً لطرق القهر والاستعباد، ولا استعباد أمضى من سيف القهر.
نحن مقهورون منذ عصور، حين رسخ المُستبد فينا ثقافة الكراهية، وبتنا أجيالاً كارهة لبعضها، لتاريخها ولأبطالها بل وحتى لمستقبلها التي لا تجرؤ حتى على التفكير به وتطالب بتوقف الزمن؛ لأن المستقبل لا شك سيحمل مستبداً أمضى من الذي سبقه.
هكذا وبكل بساطة سيطر علينا الكبت وبدأت البارانويا تعشعش في فكرنا وبتنا نخاف الخلاف والاختلاف، وحملنا السيف الوحيد الذي سمح لنا المستبد بحمله، وبتنا نقتل كل جميل فينا باسم الله، وبدأنا بالموسيقى وانتهينا بحرية إعمال العقل، ولن نتوقف عند حد حتى نرى أنفسنا خارج إطار الزمن، كأمة أضاعت بوصلتها وباتت تعيش خارج التاريخ والزمن.
نحن هنا لن نجافي الواقع ولا نريد خرق المنطق لعاطفة ما، فنحن ندرك جداً أن لكل أمة كبوة ولكل حضارة مرحلة من الكمون، فهذا من طبيعة الأشياء، أما ما كان غير منطقي في حالتنا العربية، فهو هذا الحنين الغريب للماضي وتقديسه، بل والعمل على العودة له.
لا يمكنك محاربة المنطق ولا القوانين الرياضية؛ لذلك علينا الاعتراف بأن الماضي ماضٍ، ذهب ولن يعود، علينا إسقاط سيف الكراهية من أيادينا والنهوض لنتصالح مع بعضنا ومع ماضينا بكل حسناته وسيئاته وإغلاق هذا الكتاب وكفى.
لقد حَكَمَنا على مرّ التاريخ سفلة وفسقة وقتلة، أولئك تمكنوا بالسيف والحيلة وبغفلة من الزمن، وكما كل مدّع، تطلّب أن يخترع أولئك شرعية ما، وسرعان ما هرع شيوخ السلطان لإيجادها، فقدّسوا الحاكم، وعندما أطيح بالحاكم بدأوا بتحصين أنفسهم، فقدّسوا رجال الدين، واخترعوا لذلك قصصاً ما أنزل الله بها من سلطان، من هنا، ابتلينا بداء التقديس، وبتنا نقدّس التاريخ، بل وحتى الجغرافيا، فرجالات تاريخنا مقدسون وجغرافية أرضنا مقدسة، أنسابنا مقدسة وكتبنا مقدسة وتصرفاتنا مقدسة، وفجأة، أصبحنا خارج إطار البشرية، واقتنعنا أننا مجتمع من الملائكة لا يأتيه الباطل أبداً.
في ظل هذه الغيبوبة الزماكانية، لن نجد لأنفسنا مكاناً على الخارطة الحضارية أبداً، فهذه الخارطة هي لبني البشر، علينا أن نعترف أولاً أننا من البشر ونخضع لقوانين الإنسانية، حينها، سندخل السباق الحضاري، ولن نبقى كما نحن الآن، مجرد متفرجين مستهلكين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.