أجيال تملك الثقافة والفِكر، وأجيال حظيت بملاحقة أنصافها، وأخرى فاتها رِكاب كليهما.
لكن على الأرض عائلة أكدت أنه يمكن اللحاق.. كلا إنه مؤكد. فأمّ تشبه الزهرة التي كلما نظرت لها أهدتك عطراً مسح عنك الحزن والقنوط والهم، سيدة كالثورة تحيا في النفس لا تموت، هذه السيدة الكاتبة غيرت فكر الطفلة ذات الثلاثة عشرة سنة لفكرة آنسة يدق النضوج أبواب عقلها، تفهم وتفكر بلُب ثائرة لا محض امرأة والسلام.
فأهدت "رضوى عاشور" عطر الحرية والحب وإن كان الجسد فقيداً والوجوه لم تلتقِ.
يوماً أهدى والد الفتاة إياها مجموعة من الروايات واختصت رواية الطنطورية بالحب لتعلق قلبها بفلسطين وأهلها فهذه الصغيرة لم تكن تعلم عن رضوى عاشور سوى أنها الكاتبة الثائرة، لكن لِمَ تثور؟ لا تعلم.
حين قرأت الرواية بنهم النحلة تسير بين الأزهار في حديقة مفعمة بالورد والزهور النادرة فهمت النكبة الفكرية ورؤيتها وتذوقها للخيال، فحملت زهور رضوى إليها كل ما هو صاحب مغزى ولون يرسم الحسن حسنين بوجهها.
فراحت تبحث وتفتش عن الثائرة التي نَمت بداخل عقلها والأم التي سكنت فؤادها عن "رضوى".
كانت من أول من دافعوا عن الثقاف القومية وهوية الفكر شئت أم أبيت عليك الاعتراف سيدي أن "رضوى" من أوائل الذين رفضوا أن نكون محض متنطعين على جدران الثقافة والرقي الفكري والأدبي.
لم تكن تلك الفتاة تحب مجال الصحافة قط والمهاترات والنقاشات الهادفة للدفاع عن وجهات النظر، لكن "رضوى" فتحت لها الأفق وساهمت في اتساع المدارك فرغم اختلاف الاتجاهات بين الأولى الإسلامية ورضوى اليسارية، فإن القلوب إذا أحبت لم يكن لها حاكم ولا رابط يقيدها.
فشغفت الكاتبة الثائرة عقل وقلم تلك الفتاة حب للثورة وحب للحب.
– من أجمل ما كتبت رضوى :
" عادة ما أشعر أني خفيفة قادرة أن أطير، وأنا في مقعد أقرأ رواية ممتعة، حين أشعر نفسي ثقيلة أعرف أنني على مشارف نوبة جديدة من الاكتئاب".
ويشهد الله يا رضوى كم كانت تلك الروح خفيفة تسكن الأفئدة، ولا تزال بها، وسَتظل هي الكاتبة التي تطير بنا بحسن اللفظ وجمال المعنى.
"رضوى" أثبتت لتلك الطفلة، لكل امرأة أنها ثورة لا تنتظر شعباً ليشعلها ولا يخمدها، وإنما تنتظر نفساً تُحيي بها العزيمة والحياة.
وعن الثائر المطارد وجندي الحق "مُريد البرغوثي" هذا الشاعر والمحب زوج الحُرّة الذي علم تلك الصبية حب المناظرات واللغة وصراعات الشعراء فقديماً تمِل الشعر من المعلّقات الجاهلية، وحتى شعراء الحديث، حيث إنها لم تألف إلا في الكتب المدرسية الرتيبة، فوجدت في شعره الصراع والتداخل الهادئ بين الواقع والخيال، والحب والحرب، وحلم الحرية وحياة الاستعباد.
مُريد قد رسم بأحداث حياته قصة الثائر والنازح إلى موطن السلام والحب "رضوى" وشاءت الأقدار أن يُحرم من عِناق الوطن الذي احتضنه كأم تخشى على طفلها من غباء الصهاينة على حدود الضفة.
هكذا كانت قصة العاشقين "رضوى ومُريد" لوحة تُزيد الجمال فوق مقاصده جمالاً ليحبها الله استعذاباً في قلوب المتذوقين، فأفتح أساطير العاشقين وأوجِد ما الخِلاف بين تلك القصة وجميعهم تجد أن أخلافها في كونهما هما وفقط.
قد اختار الله تلك الأصول الطيبة لتنبت ثمرةً طيبة اسمها "تميم"، هذا الشاعر والرسام القوي الذي تسمع زلزلة صوته في قصيدة (في القدس) مع الكبير "محمود درويش" قائلاً:
"فسَلم على جيش الدفاع فإنه يهدده شالٌ وثوبُ مطرزُ".
تسمع هذا الشطر من القصيدة من تميم وتجد أن الحماسة التي أخمدتها الأهواء الحياتية قد اشتعلت لتجد بنفسك جندي المقاومة النائم في كهف فؤادك، وكم من جدة شامية نالت لقب المقاومة وأنت ذلك البعيد المهزوم.
ويظهر "تميم" في حب رضوى قائلاً: "الكون قفل فجأة.. سابني في العدم واقف.. نهر الشوارع فضا.. نهر البشر ناشف".
فرضوى لم تكن محض الشاعرة والكاتبة الثائرة إنما كانت الأم التى حين ذهبت عنّا وفارقت الحياة فنحن كقراء حالفنا شعور أن الحياة انطوت علينا ككتاب ولم نعد به أحرف فماذا عن تميم الذي هو قطعة من رضوى وروح رضوى؟
وقد لفت انتباهك بيت "سيبولنا موتنا هنتفاهم معاه شوية.. دا جيلنا كله عليه ميول انتحارية".
هذا البيت يحمل في طياته التوسل والعند معاً، فبين الشباب الذي يودّ التحرر وحب الحياة وعن فكرة الانتحار التي باتت تراود فكر الأغلبية خوفاً من المجهول.
يبدو أن تميم باب من الأبواب التي تعبر عن أحوال الشباب بالشعر، كلا إنه مؤكد.
فلآل البرغوثي شكر على النور الذي ساهموا في إشعال وميض هادئ يشبه أفئدتهم جعل من هذا العالم عارفاً بما هو صاحب بمغزى مما لا يعني.
وشكراً لرضوى التي علمتنا أن القضية قضية فكر ونفوس لا حكام وفقط وإنما محكومون.
رضوى غابت عن شاشات التلفاز وصفحات الصحب، لكن روحها معنا، وكلماتها معنا، فهي مرت مرور الكرام الذين تركوا لنا ذكريات معتّقةَ بجمال المقصد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.